لماذا تزداد لغة الأوراق العلمية غموضاً؟

3 دقائق
ورقة علمية, البحث العلمي, النشر العلمي

قد تشعرك قراءة ورقة علمية أحياناً وكأنك تحاول فك شيفرة طويلة. عادة ما تكون الكتابات الأكاديمية مليئة بالمفاهيم العلمية المعقدة، ولكن في العقود الأخيرة، أصبحت الدراسات العلمية مليئة أيضاً باختصارات وكلمات مختزلة لا نهاية لها. يحاجج بعض الباحثين بأن هذا الأسلوب في الكتابة يجعل المعلومات والاكتشافات الواردة في الأبحاث غير قابلة للقراءة من قبل العلماء، والناس عامة على حدٍ سواء.

راجعت مجموعة من الباحثين في أستراليا -ومن ضمنهم عالمة بيئات بحرية وإحصائيّ- حوالي 25 مليون ورقة علمية نُشرت بين عامي 1950 و 2019، بهدف البحث عن أنماط معينة في استخدام الاختصارات اللغوية. نشر الباحثون هذا التحليل في مجلة «إي لايف». حدد الباحثون أكثر من مليون اختصار لغوي متمايز ضمن عناوين وملخصات الأوراق فقط، ووجدوا أن نسبة الاختصارات اللغوية في الورقة العلمية الواحدة تضاعفت 3 مرات منذ سنة 1950.

تقول «زوي دبلداي»، عالمة بيئات بحرية ومدرّسة توصيل العلوم في جامعة غرب أستراليا، ومؤلفة مشاركة في الورقة البحثية: «من بين أكثر 20 اختصار شيوعاً [من بين كل الدراسات]، وعلى الرغم من أنني عالمة، فقد تمكنت من تمييز حوالي النصف فقط. يبين لنا هذا التحليل لأي درجة يمكن أن تكون هذه الاختصارات دقيقة وانتقائية».

مليون اختصارٍ هو رقم هائل بالفعل، ولكن ما فاجأ دبلداي أكثر هو حقيقة أن نسبة 0.2% فقط من هذه الكلمات المختزلة استخدمت بشكل منتظم (مما يعني أن هذه الاختصارات ظهرت على الأقل 10000 مرة)، و79% منها استخدمت أقل من 10 مرات. تقول دبلداي: «لسنا نبتكر المزيد من الاختصارات مع الوقت فحسب، بل نحن لا نعيد استخدامهم حتى».

ومن المفارقات أيضاً، أنه في الوقت الذي لا يستخدم فيه العلماء الاختصارات الجديدة، هم يبتكرون تعاريف جديدة لاختصارات موجودة مسبقاً. يقول «آلان بيرلمان» في مقال حول الوضوح في الكتابات العلمية، نشر في «ذا جورنال أوف ذا أميركان سوسايتي أف إيكوكارديوجرافي»: «يعلم طبيب نفسي أن الاختصار «إم إس - MS» يعني «mental status» (الحالة النفسية)، بينما قد يعتقد عالم أعصاب أنه يعني «multiple sclerosis» (التصلّب اللويحي)، أنا مهتم بالأمراض القلبية الصِماميّة، وأنا متأكد من أنه يعني «mitral stenosis» (تضيّق الصمام التاجي). ولكن يذكّرني الصيدليّ القلبي خاصتي أن هذا الاختصار حقيقة يعني «morphine sulfate» (كبريتات المورفين)، بينما يقول لي أحد جيراني الذي يعمل في مجال الحواسيب، أنه يعني «مايكروسوفت- Microsoft».

وفقاً لدبلداي، ينتج جزء من هذا التزايد الكبير في عدد الاختصارات عن ثقافة العلم. إذ أن مجالات البحث المختلفة تملك مصطلحاتها الداخلية الخاصة التي يستخدمها الباحثون في هذا المجال في أوراقهم البحثية. تقول: «لكن جزءاً من زيادتها يعود إلى حقيقة أن المعرفة تتزايد. فالعلم ينمو ويتعقّد، ولذلك تُبتكر المزيد من المصطلحات بسبب الحاجة لها».

وفقاً لـ «أدريان بارنيت»، إحصائيّ في جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا، ومؤلف مشارك للورقة البحثية؛ فإن الغموض الذي تولده زيادة استخدام الاختصارات يولد الكثير من الالتباس، ويؤدي إلى تشكل قواقعٍ من التخصص العالي، حيث ينعزل العلماء في مجالاتهم الخاصة، وينفصلون عن الجمهور، وحتى عن أنفسهم. أصبحت الاختصارات اللغوية تقريباً معارف سرية، وشكّل استخدامها المفرط حاجزاً يمنع الآخرين من فهم الأبحاث. يضيف بارنيت: «إذا رغبت بالتعلم عن مجال بحثي جديد، يجب أن تألف الاختصارات اللغوية الخاصة به».

في ورقة علمية نُشرت في مجلة «إف إيه سي إي تي إس» عام 2019، ناقش العلماء ظاهرة «برج بابل العلمي»/ وهي ظاهرة ينمّي فيها الباحثون معارفهم الخاصة ضمن مجالات بحث متخصصة للغاية، دون أن ينمّوا فهم العوام للعلم بالضرورة. فكما يرد في هذه الورقة: «أصبحت المعارف محصورة في مجالات محددة بشكل متزايد». لعبت الاختصارات والمفردات التخصصية دوراً في جعل هذه المعارف غامضة، يقول مؤلفو الورقة الأخيرة: «22% من ملخصات الأوراق العلمية التي نُشرت في 2015 لا يمكن اعتبارها قابلة للقراءة من قبل خريجي كليات اللغة الإنجليزية».

لا شك أن الاختصارات اللغوية مفيدة جداً. فمثلاً قد تساعد اختصارات مثل «دي إن إيه» في إيصال فكرة معقدة بواسطة تشكيلة قصيرة من الأحرف، وجعل المفهوم العلمي سهل المنال. وتساعد اختصارات مثل «إن إيه إس إيه» القراء بشكلٍ فعال في تذكّر أسماء طويلة ومزعجة (ذا ناشيونال آيرونوتيكس آند سبيس آدمينيسترايشن). كما أن اختصارات مثل «ليزر» (وهو اختصار لعبارة تترجم إلى: تضخيم الضوء بالانبعاث المحفز للإشعاع) أو «إس تي إي إم» (اختصار لنظائر المصطلحات: «العلم، التكنولوجيا، الهندسة، والرياضيات» بالإنجليزية، وتقرأ «ستيم») أصبحت كلمات شائعة بحد ذاتها.

وفقاً لبارنيت، إن تحديد متى يكون الاختصار اللغوي مناسباً قد يكون أمراً صعباً. يعتقد معظم العلماء الآن أنه يجب استخدام الاختصارات فقط عندما تكون المصطلحات غير مبهمة، وشائعة في مجال البحث، ولا يمكن استبدالها بسهولة بمصطلحات أبسط، وإذا كانت الكلمات طويلة أو معقدة للغاية. يشرح بارنيت: خذ بعين الاعتبار «إتش آر»، وهو اختصار لـ «heart rate» (معدل نبضات القلب)، لكلا اللفظين مقطعان فقط، ومن السهل استنتاج معنى الاختصار، كما أنه يشير إلى مفهوم يألفه معظم الناس.

إن التخلص من الاختصارات غير الضرورية قد يزيد من فهم الناس للعلم، ويدفعهم لتنمية اهتماماتهم في مواضيع تخصصية. أشار مقال عام 2017، نشر في صحيفة «ذا أوبزيرفر» التابعة لمنظمة «جمعية العلوم النفسية»، أنه كلما شُرحت معاني الاختصارات أكثر، زاد اهتمام القراء بالموضوع أكثر.

يقول بارنيت: «من بين كل المشاكل الموجودة في العلم، فهذه المشكلة حلها بسيط نسبياً». وهناك غالباً عواقب خفية لاستخدام هذا العدد الكبير من الاختصارات يجهلها العلماء. يضيف بارنيت: «يمكن أن يرغب أحدهم بقراءة ورقة علمية حول مرض أصاب شخصاً يهتم لأمره، ويمكن أن يستسلم بعد قراءة مقطع واحد بسبب صعوبة قراءة اللغة المستخدمة».

وفقاً لدبلداي، حتى العلماء يستصعبون قراءة الأوراق العلمية. ليس من المفترض أن يحتاج شخص ما استخدام العناوين التوضيحية والدلائل ليقرأ دراسة علمية. فإزالة الاختصارات هي خطوة باتجاه جعل اللغة العلمية مفهومة أكثر.

المحتوى محمي