لطالما شغلت الأحلام تفكير الإنسان، إذ يَرِدُ ذكرها في أقدم السجلات التاريخية، وكان تفسيرها فيما مضى ينبع بشكلٍ رئيسيٍ من عالم الأرواح، وكان البشر قديماً يعتقدون أن الأحلام تأخذ الإنسان إلى مكانٍ ما أو تأتي هي بحد ذاتها من عالمٍ آخر. أما أولى الفرضيات العلمية التي حاولت فهم ماهيتها فجاء بها أرسطو وأفلاطون وكان فحواها أن الأحلام إشباعٌ للغرائز. ورغم أن البشرية قطعت شوطاً طويلاً منذ ذلك الوقت إلا أنها لم تصل إلى جوابٍ شافٍ عن السؤال الجوهري: لماذا نحلم؟ لكن هناك الكثير من الفرضيات العلمية التي تحاول الإجابة.
1- رغبات الإنسان الدفينة
في مطلع القرن العشرين، وبالتحديد عام 1900، قدّم سيجموند فرويد كتابه الشهير تفسير الأحلام، ووصف الأحلام بأنها «الطريق الملكي» نحو عالم اللاوعي، ومفاد نظريته أن للإنسان رغباتٍ ودوافعَ وأفكاراً عنيفةَ وربما جنسية يكبتها وعيه في اليقظة، فلا تجد لنفسها منفذاً إلا في الأحلام، وقال أن الحلم مؤلفٌ من محتويين، محتوىً واضح يتمثل بالصور والأصوات والأفكار التي يراها النائم، ومحتوىً خفي، يتمثل بالمعنى النفسي لهذه الصور والأفكار.
رأى فرويد أن الحلم لا يكشف عن الغيب بل هو سعي لتحقيق رغبة، ورأي أن بعض العناصر في الحلم قد يكون لها لغة وتفسيرٌ عالمي، أي يشمل كل البشر باختلاف الثقافات، مثل أن الملك والملكة أو الإمبراطور والإمبراطورة يصوران حقيقة والداي الحالم في أغلب الأحيان. لم يتوقف فرويد عند هذا الحد؛ بل إنه استخدم نظريته في تفسير الأحلام مع مرضاه كجزء من أدوات التحليل النفسي.
2- محاولة البحث عن معنى:
ظهرت هذه الفرضية التي تُعرف باسم التفعيل الجماعي Activation-Synthesis عام 1977 على يد ج. هوبسون، وروبرت ماك كلارلي، وتقول بوجود نشاطٍ عصبيٍ عالٍ في مرحلةٍ من النوم تُعرف بمرحلة حركة العين السريعة «ريم» وفيها تتحرك العين بسرعة، يرتفع الضغط، يتسارع التنفس، ينتصب القضيب عند الذكور، وترتخي باقي عضلات الجسم، يتركز هذا النشاط في جزءٍ من الدماغ يُسمى بالجهاز الحوفي، وهو مسؤولٌ عن العواطف والأحاسيس والذاكرة.
وفي خضم هذا النشاط العصبي المرتفع، تحاول المراكز العليا في الدماغ –المسؤولة عن التفكير والمنطق-إيجاد معنىً لما يحدث؛ ليتجسد هذا المعنى في الأحلام، فلا عجب إذاً أن تكون الأحلام غريبةٍ وغير مفهومة، فهي باختصارٍ –وفق هذه الفرضية-ناتجٌ ثانويٌ عن نشاطٍ عصبيٍ تنتجه مراكز مسؤولةٌ عن العواطف (الجهاز الحوفي) وتحاول تفسيره مراكز مسؤولةٌ عن الوعي (المراكز العليا في الدماغ).
3- تذكر أن تنام، ونَم لتتذكر:
إن الفرضية التي تعطي للأحلام دوراً في الذاكرة هي واحدةٌ من أبرز الفرضيات التي تحاول الإجابة عن سؤال «لماذا نحلم؟». وخلاصتها أن الأحلام تساعدنا في حفظ المعلومات التي حصلنا عليها في اليقظة وتتخلص من تلك التي لا تفيدنا. ورغم أن الآلية التي تنجز بها الأحلام هذه المهمة غير واضحةٍ إلا أن هناك بعض الاقتراحات، إحداها يقول أن تثبيت الذاكرة يتطلب مزجاً للخبرات والمعلومات التي حصل عليها المرء في اليقظة يتلوها استخلاصٌ للعموميات، وربما تعكس الأحلام -كونها عبارةً عن عملية مزجٍ لأجزاءٍ مختلفةٍ من الذاكرة ينتج عنها أشياء غريبة-هذه الآلية.
وهناك بعض الدلائل التجريبية على هذا الأمر. فالنشاط العصبي في منطقة تحت الوطاء في الدماغ في القوارض التي تخوض متاهةً مشابهٌ جداً لنشاط نفس هذه المنطقة في هذه الحيوانات عند النوم، هل هذا يعني أنها تحلم بالمتاهة؟ لا يمكننا أن نسألها، إلا أن نفس التجربة أجرها طلاب جامعة هارفارد الأميركية، خاض 99 طالباً متاهةً بتقنية الواقع الافتراضي لمدة 45 دقيقة طُلِب منهم فيها أن يحفظوا أماكن أشياء معينة، ومن ثم حظي 50 منهم بقيلولة، ولا عجب أن من نام كان أفضل أداءً عندما طُلِبَ منهم الدخول إلى المتاهة من جديد، أما من تربع على عرش الأداء الأفضل، فهو من حلم بالمتاهة.
4- تدريب على الخطر
ربما حُلُمَ معظمنا بأحلامٍ من قبيل السقوط من مكانٍ مرتفع، أو بأنه هدفٌ لمطاردةٍ ما، وهذا ليس بالأمر الغريب، فهذان الحُلُمانِ هما من أشيع الأحلام، فما السبب الكامن وراء ذلك؟ حسناً، يكون نشاط اللوزة الدماغية -أحد الأجزاء المسؤولة عن تعامل الإنسان مع الخطر- عالياً في مرحلة حركة العين السريعة «ريم» أثناء النوم مقارنةً بحالة اليقظة. وهناك نشاطٌ عصبيٌ عالٍ في نفس الوقت في الجزء المسؤول عن الحركة (كالهروب) في الدماغ، لكنه لا يتسبب بالحركة (لأن العضلات تتوقف مؤقتاً عن العمل في مرحلة حركة العين السريعة).
إذاً، فاللوزة الدماغية تخلق محاكاةً لحالةٍ خطرةٍ والخلايا العصبية المسؤولة عن تحريك العضلات للهرب أو القتال تعمل دون أن تعمل العضلات، إنه تدريبٌ على التعامل مع الخطر!
5- الأحلام علاجٌ للنفس:
الأحلام وفق هذه الفرضية هي طريقةٌ للتعامل مع الحالات النفسية والعاطفية التي واجهتنا في الحياة اليومية في بيئةٍ آمنةٍ هي أرض الأحلام. أي أن الدماغ في الأحلام يقوم بإنشاء روابط لم يكن ليُكتب لها الوجود في حالة اليقظة مما قد يساعد في النظر إلى المشكلات التي نتعامل معها من منظورٍ جديد.
باختصار، الأحلام هنا هي طاولة العلاج أو طبيبنا النفسي، نتعامل فيها مع الأمور بطريقةٍ عاطفيةٍ دون القيود المنطقية التي تفرضها علينا حالة اليقظة.
6- لديك مشكلة، نم لتحلم بالحل!
يُقال أن عالم الكيمياء أوغست كيكوليه قد أمضى الكثير من الوقت يحاول معرفة بنية مركب البنزين دون جدوى، ولم يمسك بطرف الخيط إلا في حلمٍ غريب، حيث رأى أفعى ملتفةً على نفسها بشكل دائرةٍ وتأكل ذيلها، فتوصل إلى أن بنية البنزين حلقية!
وتحفل الدراسات العلمية بالعديد من الأمثلة على دور الأحلام في حل المشاكل، فعند اختبار مجموعةٍ من الأطفال بمسألةٍ مثلاً، قد يجدون حلها في الحلم!.
نظرياتٌ وإجابات
لم تتوقف النظريات العلمية في تفسير ماهية الحلم ومحاولة الإجابة عن سؤال لماذا نحلم؟ عند ما سبق، لكن هناك نظريات أخرى حاولت الإجابة مثل:
- الأحلام هي طريقةٌ للتخلص من المعلومات غير المهمة التي سجلتها الذاكرة في حالة اليقظة
- الأحلام قد تكون فرصةً لصقل المهارات: فعندما تحتل مقابلة عملٍ أو تجربة أداءٍ ذهن شخصٍ ما فإنه قد يحلم بها، وربما يعطيه هذا فرصةً للتدرب قبل التحدي الحقيقي
- الأحلام منبعٌ للإبداع، فبشكلٍ مشابهٍ لما ذُكِرَ عن دورها في التدرب على التعامل مع المواقف الخطرة وبالتالي زيادة فرص النجاة، قد يكون لها كذلك دورٌ في تطوير مهارات الإنسان المعرفية والإبداعية؛ باختصار، لا وجود في الأحلام «للغربال المنطقي» الذي قد يحد من الإبداع.