غالباً ما تثير حساسية الأطفال نقاشاً حامياً بين الآباء، فعادةً ما يعتبر الآباء رأيهم صائباً ويرفضون الرأي الآخر فيما يتعلق بوقاية أطفالهم من الحساسية المفرطة؛ لكن في الواقع، فقد لا يكون معظم الآباء على درايةٍ بأحدث وأفضل الطرق لوقاية أطفالهم من أمراض الحساسية.
خلال العامين الماضيين؛ واجه أخصائيو المناعة والحساسية انتقاداتٍ لاذعةً لأن الأدلة الجديدة تشير إلى أن نصائحهم السابقة حول إعطاء الأطفال الفول السوداني بعد سن الثانية كانت خاطئةً تماماً، بينما يُنصح الآباء حالياً بإدخال الفول السوداني قبل بلوغ الطفل عامه الأول. بدا هذا التحوّل بالنسبة للكثيرين وكأنه نوعٌ من الاعتراف بالجهل، وحقيقة تشجّع الناس على رفض ما يقوله الخبراء في هذا المجال؛ لكن حقيقة الأمر هي أن البحث العلمي يعمل بهذه الطريقة؛ حيث يقدم الأطباء أفضل نصيحة متاحةٍ بناءً على الأدلة التي تتوفر بين أيديهم، وعند ظهور أدلة جديدة تشير إلى أنهم كانوا على خطأ، يقومون بتحديث نصائحهم.
بالرغم من أن موضوع حساسية الأطفال ما يزال محل جدلٍ وبحثٍ مستمر؛ إلا أن هناك الكثير من الأدلة المُثبتة التي يمكن للآباء البناء عليها للحفاظ على صحة أطفالهم. علينا فقط أن نكون واضحين بشأن ما هو مُثبت، وما الذي لا يزال بحاجة إلى مزيد من البحث.
تعريف الحساسية
الحساسية هي مجموعة واسعة ومتنوعة من الأمراض التي تندرج تحت مبدأ فرط الحساسية. عندما يبالغ الجهاز المناعي بردة فعله تجاه موادٍ غير ضارة؛ مثل الفول السوداني أو حبوب اللقاح، تحدث عندئذٍ الحساسية. يستجيب الجهاز المناعي لدى بعض الناس بشكلٍ مفرطٍ أحياناً لمسببات الحساسية، لدرجةٍ قد يُصاب فيها المرء بصدمة الحساسية، بينما قد تقتصر الأعراض لدى البعض الآخر على الحكّة أو الورم في بعض مناطق الجسم، وغير ذلك؛ ولكن جميعها ردود فعلٍ مناعية لمسببات الحساسية التي يعتقد الجسم أنها أجسامٌ غريبة.
في الواقع؛ ما زلنا غير متأكدين تماماً من السبب الذي يؤدي لظهور أعراض الحساسية لدى بعض الأشخاص دون غيرهم؛ ولكن يبدو أنه عائدٌ للتعرّض لمزيجٍ من العوامل البيئية والجينية؛ مثل أنواع بعض الطعام، والصفات الوراثية التي نأخذها عن آبائنا، وعدد المواد المسببة للحساسية التي نتعرّض لها. لذلك يأمل الكثير من الآباء توفيرَ الظروف المناسبة لحماية أطفالهم من الحساسية.
البالغون يصابون بالحساسية أيضاً
بالرغم من نوايا الآباء تجاه أطفالهم هي مساعدتهم؛ لكن المسوحات في الولايات المتحدة -على الأقل- تُظهر ارتفاع نسبة المصابين بالحساسية الغذائية باستمرار. وصلت نسبة الحساسية تجاه المحار إلى 7%، والمكسرات إلى 18%، والفول السوداني 21%.
نُشرت هذه الإحصائيات في مسحٍ أُجري عام 2017 وعُرضت نتائجه في مؤتمر الكلية الأميركية للحساسية والربو والمناعة؛ حيث شمل أكثر 53 ألف عائلةٍ أميركية. من المؤكد أن هذا الارتفاع ناجمٌ عن تضافر عدة عوامل؛ ولكن إحدى التفسيرات البارزة لها تُعرف باسم «فرضية النظافة».
ربما سمعت بهذه الفرضية من قبل؛ والتي تفترض أن الأطفال الذين لا يلعبون خارج المنزل ويختلطون بالطبيعة بشكلٍ كافٍ، لا تتعلّم أجسامهم التمييز بين المواد الخطرة والمواد غير الضارة، فإذا لم يتعرّض الطفل لما يكفي من مسببات الحساسية؛ سيكون جهازه المناعي عرضةً للاضطراب.
اقرأ أيضاً: الطبيعة صديقة طفلك في مواجهة الحساسية
وهناك أيضاً فرضية المضادات الحيوية؛ إذ يبدو أن الجسم السليم الذي يتمتع بالبكتيريا الصحية يقي من الإصابة بأمراض الحساسية، لذا فإن تناولنا للمضادات الحيوية -حتى للأمراض البسيطة- يضر جهاز المناعة. كما وُجدت علاقةٌ بين نقص فيتامين «د» والسمنة بالربو والحساسية، رغم أن الآلية الدقيقة وراء هذه العلاقة المحتمَلة لا تزال غير واضحة، وتبرز الآن حقيقة أنه على مدى سنوات عديدة؛ نصحنا الآباء بعدم إعطاء الأطعمة المسببة للحساسية للأطفال حتى يبلغوا سن الثانية، وهو -كما بتنا ندرك الآن- كان عكس ما كان يجب أن نفعله تماماً.
لا يُصاب الأطفال فقط بأمراض الحساسية؛ إذ وجد الاستطلاع نفسه أن 45% من الأشخاص الذين لديهم حساسية الطعام لم يُصابوا بها حتى سنّ البلوغ. كان المحار المسبب الأكثر شيوعاً للإصابة بالحساسية لدى البالغين، ويبدو أن الفول السوداني هو المسبب الرئيسي للحساسية عند الأطفال؛ لكن الجمبري (الروبيان) يصبح المسبب الرئيسي للحساسية مع بلوغهم.
ما زلنا غير متأكدين تماماً من أسباب الحساسية؛ ربما تعود لمجموعة من السمات المشتركة، أو بسبب تعرض مجموعاتٍ معينة من الناس لخطورةٍ أكبر. على سبيل المثال؛ ترتفع نسبة الإصابة بالحساسية بين الأطفال أصحاب البشرة السمراء في الولايات المتحدة، بينما تتمتع أستراليا بأعلى معدلات الإصابة بالحساسية في العالم؛ حيث يميل المهاجرون من البلدان ذات المخاطر المنخفضة إلى إنجاب أطفالٍ ترتفع لديهم عوامل الخطورة؛ مما يشير إلى دورٍ ما للعوامل البيئية في الإصابة بالحساسية.
جدل إعطاء الفول السوداني للأطفال الرضّع
قد تنخفض نسبة الإصابة بحساسية الفول السوداني في المستقبل القريب وتصبح أقل شيوعاً؛ لكن ذلك يعتمد على مدى اتباع الآباء والأطباء النصائح الحديثة بشأن إدخال الأطعمة المسببة للحساسية للأطفال في وقتٍ مبكر.
قامت معاهد الصحة الوطنية في يناير/ كانون الثاني عام 2017 بتعديل توصياتها رسمياً حول التعرّض للفول السوداني؛ إذ أوصت بأنه يجب إدخال الفول السوداني في طعام الأطفال بعمر 4-6 أشهر إذا كانوا غير معرضين لخطورةٍ عالية للإصابة بأمراض الحساسية.
استندت تلك التوصيات الجديدة إلى دراسةٍ ضخمة نُشرت في دورية «نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسن» عام 2015؛ والتي أظهرت أن الأطفال الذين تناولوا الفول السوداني في هذا العمر، كانوا أقلّ عرضةً للإصابة بالحساسية تجاه الفول السوداني بنسبة 80%، كما وجدت متابعة الدراسة أن هذا التعرّض المبكر حمى أولئك الذين لم يتناولوا البقوليات فيما بعد. يجب تقييم حتى الأطفال المعرضين لخطرٍ كبير لمعرفة ما إذا كان لديهم ردّ فعل تحسسي مفرط فعلاً أم لا، أو ما إذا كان إدخال هذه الأطعمة في طعام الأطفال مبكراً يمكن أن يقيَهم من تطور الحساسية لديهم بشكلٍ كامل.
إلا أن مسحاً صغيراً لأطباء الأطفال-عُرض أيضاً في مؤتمر الكلية الأميركية للحساسية والربو والمناعة- يشير إلى أن الأطباء لا يقدمون هذه النصيحة بالضرورة إلى الآباء، فقد طلب أكثر من ثلاثة أرباع الأطباء من الآباء إدخال الفول السوداني في طعام الطفل بعمر 4-6 أشهر؛ لكن ما يقرب من النصف لم يختبروا الأطفال لمعرفة ما إذا كانت لديهم مخاطر عالية أم لا. عموماً؛ لم تتبع الغالبية العظمى من الأطباء إرشادات معاهد الصحة الوطنية بشكلٍ كامل.
يقول «ديف ستوكوس»؛ أستاذ طب الأطفال المشارك في مستشفى «نيشن وايد» للأطفال والمتحدث باسم الكلية الأميركية للحساسية والربو والمناعة: «سيستغرق تطبيق الإرشادات التوجيهية السريرية الجديدة في الممارسة العملية بالكامل 10 سنوات». كان ستوكوس أحد أعضاء المجموعة التي صاغت الإرشادات المتعلقة بالفول السوداني في معاهد الصحة الوطنية في وقتٍ سابق من ذلك العام، وهو يعلم أن تطبيق هذه الإرشادات لن يحدث بين عشية وضحاها؛ إذ يجب العمل على تزويد الأطباء بآخر نتائج البحث العلمي، وتثقيفهم حول كيفية التواصل مع مرضاهم.
وفقاً لتجربة ستوكوس، فإن أصعب الأشخاص الذين يمكن الوصول إليهم هم الآباء الذين لديهم أطفالٌ أكبر سناً ممن يعانون من حساسية الفول السوداني مسبقاً؛ إذ يمكن أن يزعجهم التغيير المفاجئ للتوصية، ويخشون من كابوس تقديم الفول السوداني لطفل في منزل يعاني فيه طفل آخر من الحساسية. يقول في هذا الصدد: «سيستغرق شرح سبب التغيير وفوائده المحتملة للآباء بعض الوقت. بعد ذلك؛ يصبح الآباء متحمسين جداً له».
الأكزيما، الربو والحساسية
قد تبدو الأكزيما غير مرتبطة بالحساسية والربو؛ لكن توصلت بعض الأبحاث لنظرية تفيد بأن إصابة الطفل بالأكزيما في مرحلةٍ مبكرة من عمره يمكن أن تتطور إلى مشاكلَ مناعية خطيرة؛ تُدعى هذه الفكرة «مسيرة الحساسية» (مسيرة التأتّب) - مصطلح طبي يُستخدم لشرح التاريخ الطبيعي للمظاهر التأتبية والميل لتطوير الحساسية. قد يكون الارتباط بين الأكزيما والمشكلات المناعية اللاحقة جزئياً نوعاً من الاستعداد للإصابة بأمراض مناعية متعددة؛ ولكن تشير المزيد من الدراسات إلى وجود علاقة سببية أيضاً.
نظراً لأن مصطلح «الأكزيما» واسع ويعبّر عن مجموعة متنوعة من مشاكل الجلد؛ يعتقد الكثير من الناس أنها حالةٌ عشوائية إلى حدٍ ما؛ ولكن الشكل الأكثر شيوعاً -التهاب الجلد التأتّبي- ينتج بشكلٍ أساسي عن مشكلةٍ في جزءٍ من الجلد تُحدث مبالغةّ برد الفعل المناعي تجاه المهيجات.
يشرح ستوكوس الأمر قائلاً: «يحدث خلل في الجلد عند الإصابة بالأكزيما، ويضعف عمله كحاجزٍ أوّلي للجسم؛ مما يؤدي لخسارة رطوبة الجلد وجفافه بالتالي؛ ولكن هذا الخلل يسمح أيضاً بدخول المواد المسببة للحساسية؛ التي لم تكن لتدخل إلى الجسم لو لم يكن هناك خلل في الجلد».
هذا التعرض الإضافي والاستجابة المناعية الالتهابية يمكن أن يدفع جسم الطفل إلى التفاعل بسهولةٍ أكبرَ مع مسببات الحساسية؛ الأمر الذي قد يشجع على تطور الربو وردود الفعل التحسسية الأخرى. يقول ستوكوس: «أرى ذلك كل يوم في العيادة، وأقول لزملائي: اسمع، عندما يكون لديك طفل رضيع مصاب بالأكزيما الرهيبة، فإنها مؤشر أوّلي على احتمال إصابته لاحقاً بالحساسية والربو». تتحسن الأكزيما بعد عام أو نحو ذلك، وربما لا تظهر الحساسية البيئية حتى عمر عامين أو 3 أعوام، ويستغرق الربو بعد ذلك المزيد من الوقت ليتطور؛ ولكن هذه الحالات كلها قد تكون مرتبطةً ببعضها.
كيف يمكن للآباء الاستفادة من هذه المعلومات؟
يجب على آباء الأطفال المصابين بالأكزيما التفكير في الذهاب إلى أخصائي الحساسية الذي يمتلك الخبرة الكافية لعلاج الأطفال المصابين بالحساسية الشديدة والتعامل معها، ويمكن اختبار الطفل قبل تعريضه لمثيرات الحساسية المحتمَلة فقط في حالة شك الطبيب أنه من الممكن أن تكون لديه حساسية مفرطة، ويمكن أن يتم التعريض في عيادة الطبيب لاحتياطات السلامة، كما قد أصبح من الشائع جداً أن يختار الآباء مكاناً قريباً من غرفة الطوارئ لإطعام أطفالهم زبدة الفول السوداني لأول مرة.
عموماً؛ يجب على الآباء محاولة إدخال المواد المسببة للحساسية في وقتٍ مبكر؛ إذ تشير جميع الأدلة إلى أن ذلك سيساعد الطفل بشكلٍ كبير على الوقاية من الحساسية المفرطة في وقتٍ لاحق من عمره. راجع الطبيب المختص إذا كنت تشعر بالقلق إزاء حالة طفلك، فهو الوحيد الذي سيكون قادراً على إرشادك والحد من مخاوفك، وحتى تقديم خطة لكيفية المتابعة. قد يكون الأمر مخيفاً؛ ولكنه إجراءٌ ضروري، والحساسية ليست مزحة.
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياًعلماً أن المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.