قد يبدو أن وباء الداء البطني (اعتلال الأمعاء التحسُّسي إزاء الجلوتين) قد انتشر في الآونة الأخيرة، حيث زادت معدلات انتشاره في أميركا أكثر من أربع مرات في السنوات الخمسين الماضية، وشهدت أوروبا ارتفاع معدلات الإصابة به على نحو مشابه. بين عامي 1984 و1996 شهدث السويد تسجيل معدلات تشخيص مرتفعة للمرض، مما استدعى إجراء تحقيق على مستوى وطني.
ثمة نظريات مختلفة حول سبب هذا الارتفاع، وبالرغم من أن جزء من السبب يعود لزيادة الوعي بالمرض (وانتشار الأنظمة الغذائية الخالية من الغلوتين)، فهناك عامل محتمل آخر غالباً ما يفسر على نحو خاطئ، وهو أننا نأكل الكثير من الغلوتين.
سيخبرك الكثير من المدونين وأشباه العلماء أن المشكلة تكمن في القمح المعالج الذي نأكله. سيقولون أن القمح في أوروبا يحتوي على نسب قليلة من الجلوتين، وسيقنعونك أكثر إذا هم قالوا أن الأشخاص الذين يعانون من الداء البطني يمكنهم تناول هذا الخبز الخالي من الجلوتين دون أي آثار جانبية. أو قد يحاججون بأن منتجات الخبز أصبحت معالجة أكثر من اللازم، وبالتالي أسوأ، وهذا هو السبب وراء الانتشار المهول للداء البطني وحساسية الجلوتين.
هذه الحجج خاطئة، لكن تناول منتجات الجلوتين قد يزيد من خطر الإصابة بالداء البطني، إذ إن تناولها والتعرض لها قد يؤدي إلى ردود فعل سيئة. اعتبر الباحثون في السويد أن انتشار المرض مرتبط بتناول الأغذية التي تحتوي على الجلوتين في مرحلة الطفولة المبكرة، ولكن التجارب السريرية اللاحقة لم تجد أي علاقة بين ارتفاع استهلاك الجلوتين، وزيادة خطر الإصابة بالداء البطني. لكن فكرة أن تناول كميات كبيرة من الجلوتين سيؤدي حتماً إلى زيادة خطر الإصابة بالداء البطني استقرت في الأذهان.
وجدت دراسة حديثة في مجلة الجمعية الطبية الأميركية أن زيادة جرام واحد من الجلوتين فوق المعدل المتوسط؛ يرفع خطر إصابة الأطفال بالداء الطني من 20.7% إلى 27.9%. علاوة على ذلك، يؤدي تناول قطعة صغيرة من الخبز يومياً (تحتوي تقريباً على جرامين من الجلوتين) إلى زيادة خطر الإصابة. هذا ما يحدث للأطفال الذين تقل أعمارهم عن 5 سنوات، ويبلغ خطر الإصابة ذروته بالداء البطني ذروته في سن الثالثة، لكن النقطة الأهم في الدراسة هي أن الداء يظهر عند الأطفال الذين لديهم استعداد وراثي لذلك.
الداء البطني ليس وراثياً، بمعنى أن سببه المباشر جين واحد فقط، مثلما هو الحال مع التليف الكيسي، أو ضمور دوشين العضلي. أساساً، يمتلك جل المصابين بهذا الداء واحد من اثنين من المتغيرات الوراثية لبروتين في الجهاز المناعي يسمى «HLA-DQ»، لذلك فمن غير المحتمل أن تصاب بالمرض إذا لم تكن لديك هذه الجينات. نحو 40% من سكان أميركا وأوروبا وجنوب شرق آسيا؛ لديهم الجينات التي تجعلهم أكثر عرضة للإصابة بالداء البطني، لكن 40% منهم لا يعانون منه. حتى بين الأشخاص الذين لديهم نسختين من جين HLA-DQ2، لا يتجاوز خطر الإصابة 14.2%، أما الذين لديهم نسخة واحدة من HLA-DQ8 فخطر الإصابة يقدر بـ 1.5% فقط.
لطالما مثل تحديد سبب إصابة بعض الأشخاص بالداء البطني لغزاً حير علماء المناعة. قبل عامين، اقترح مجموعة من الباحثين من جامعة شيكاغو أن الإصابة بفيروس رئوي غير ضار قد يدفع أجهزة المناعة عند بعض الناس إلى تطوير المرض. تقول بعض النظريات أن أنواعاً أخرى من التهابات الجهاز الهضمي، وحتى تركيبة الميكروبات في الجسم قد ترفع خطر الإصابة بالمرض.
أعادت الدراسة الأخيرة بعض المصداقية لحجة استهلاك الجلوتين كمسبب للمرض، لكن ملاحظة مصاحبة للدراسة أشارت إلى أن «كمية الجلوتين التي يتناولها الأطفال خلال السنوات الخمس الأولى من حياتهم؛ لا يمكن أن تفسر كلياً زيادة انتشار الداء البطني». على سبيل المثال، تسجل فنلندا معدلات مرتفعة للإصابة بالداء البطني، ولكن حتى داخل أوروبا، ثمة بلدان، مثل إيطاليا واليونان، تستهلك كميات أكبر من كميات القمح المستهلك في فنلندا. وأشارت الدراسة نفسها إلى وجود تباينات في النتائج المتعلقة بكميات الغلوتين التي تسبب المرض.
في الماضي، كانت التوصل إلى نتائج متباينة كفيلاً بمنع مجموعات الأبحاث التي تدرس أمراض الجهاز الهضمي من التوصية بالامتناع عن إطعام الأطفال القمح. لكن مؤلفوا الدراسة يقولون أنه إذا أثبتت أبحاث مستقبلية صحة ما توصلت إليه الدراسة، فقد تتغير تلك التوصيات. قد يُطلب من آباء الأطفال الذين تؤهلهم جيناتهم للإصابة بالداء البطني -على الأقل من خطر إصابتهم بالداء مرتفع، مثل الذين لديهم نسختين من HLA-DQ2 أو HLA-DQ8-؛ أن يزودوهم بوجبات غذائية خالية من الجلوتين، خاصة في الطفولة المبكرة عندما يكون خطر الإصابة أكبر.
لذلك، نحن بحاجة إلى دراسات إضافية لمعرفة الأسباب الرئيسية للمرض. حتى الآن، كانت النتائج متباينة، ولن تدفع دراسة واحدة الخبراء إلى تغيير توصياتهم. ما ينبغي تذكره هو أن زهاء 40% من سكان أميركا وأوروبا وجنوب شرق آسيا معرضون للإصابة بالداء البطني، على الأقل من الناحية الوراثية. لكن لا أحد يقول أنهم يجب أن يتوقفوا عن إعطاء أطفالهم مواد تحتوي على الجلوتين، إذ هناك عوامل أخرى قد ترفع خطر الإصابة بالداء، أضف إلى ذلك أن خلو النظام الغذائي للأطفال من الجلوتين قد يحرمهم من عناصر غذائية هامة. لكن إذا كان لدى عائلتك تاريخ من الإصابة بالداء البطني، فمن الأفضل أن تبقى مطلعاً على الأبحاث الجديدة، فنحن نتعلم المزيد عن هذا المرض، ويمكن أن تقدم دراسة جديدة تدابير وقائية يمكن أن تقلل من خطر الإصابة بالداء البطني.