يحمي لقاح الحصبة الأطفال من مرضٍ شديد العدوى قد يكون مميتاً في بعض الأحيان. لكن بحثاً جديداً صدر في الآونة الأخيرة، يؤكد على أن الأطفال الذين لا يُصابون بالحصبة، يكونون أقلّ عرضةً للإصابة بمجموعةٍ من الأمراض المعدية الأخرى أيضاً. يعود السبب في ذلك إلى أنّ فيروس الحصبة قد يمحي «الذاكرة المناعية» لديهم، والمسؤولة عن مقاومة الأمراض الأخرى، حسب ما قالته دراستان نُشرتا مؤخراً.
يقول «مايكل مينا»، مؤلف إحدى الدراستين المنشورتين في دورية «ساينس» والأستاذ المساعد في علم الأوبئة بكلية «هارفارد تي. تشان» للصحة العامة: «سيسهم بحثنا في تطوير فهمٍ جديد لفوائد لقاح الحصبة على الصحة العامة. في الواقع، فيروس الحصبة أخطر بكثيرٍ مما كنا نظن، مما يعطي للقاح الحصبة قيمةً وأهميةً أكبر».
أجرى مينا عام 2015 تحاليلاً احصائية حول مرض الحصبة. وقد وجد، تاريخياً، أن أغلب حالات تفشي الحصبة بين الأطفال كانت تتبعها بعد فترةٍ قصيرةٍ جداً زيادةٌ في أعداد الوفيات بسبب أمراضٍ أخرى غير الحصبة. وبناءً على ذلك، يفترض مينا أنّ الإصابة بمرض الحصبة قد أدّت لضعف المناعة. بعبارةٍ أخرى، قامت بمحو ذاكرة الجسم المناعية المسؤولة عن مقاومة الأمراض الأخرى التي أصيب بها الجسم سابقاً وتغلّب عليها. اتصل مينا بعد نشر دراسته بالعديد من المنظمات مثل منظمة الصحة العالمية، ومركز السيطرة على الأمراض. يقول: «لقد خلصنا إلى أننا بحاجةٍ ماسةٍ إلى فهم الآلية البيولوجية التي تقف وراء حدوث ذلك».
ولفهم هذه الآلية، فحص مينا عينات دمٍ من 77 طفلاً في هولندا أصيبوا بالحصبة، حيث لم يحصلوا على لقاح الحصبة سابقاً. وقد استخدم في هذا الاختبار أداةٍ جديدة تسمى «فيراسكان - ViraScan»، والتي طوّرها «ستيفن إليدج»، مؤلف الدراسة والأستاذ في قسم علم الوراثة في كلية الطب في جامعة هارفارد وبرينغهام، ومستشفى وومن، حيث يمكن لهذه الأداة تبيان حجم الأجسام المضادة في عينات الدم، والذي يُعد مؤشراً على أنواع الفيروسات التي تعامل معها الجسم سابقاً. بالتالي تدلّ على قدرة الجسم على مواجهتها فيما لو حصلت الإصابة بها مجدداً في المستقبل. يقول الطبيب ستيفن عن ذلك: «يُعتبر مقدار الأجسام المضادة في الدم مؤشراً مهماً يدل على صحة الجهاز المناعي ومدى الأمراض التي يمكن له مقاومتها».
وقد وجد الفريق أن الأطفال، بعد إصابتهم بالحصبة بفترةٍ من الزمن، قد فقدوا بين 11% إلى 73% من الأجسام المضادة، وقد فقدوا أيضاً، وسطياً، نحو 20% من تنوّع الأجسام المضادة لديهم. وقد كرر الفريق تجاربه على قرود المكاك، وقد كانت النتائج مشابهةً، حيث لاحظوا أنّ هناك نقصاً موجوداً في المضادات الحيوية استمر بعد 5 أشهر من إصابتهم بالحصبة.
وقال مينا: «إن الاختلاف الكبير في نسبه فقدان الأجسام المضادة -قبل وبعد الإصابة- لم يكن مفاجئاً. في الواقع نحن قلقون من أن فقدان تنوع الأجسام المضادة ليس أسوأ شيءٍ قد يحدث. ففي المناطق التي قد يعاني فيها الأطفال من سوء التغذية ويصابون بالحصبة، فإننا نرجّح أن نرى نسباً أعلى من فقدان الذاكرة المناعية مما رايناه هنا».
أما بالنسبة للدراسة الأخرى، والتي نُشرت مؤخراً في دورية «ساينس أميونولجي»، فقد كشفت أن الأطفال الذين أُصيبوا سابقاً بالحصبة؛ كانوا يعانون من نقصٍ في أنواعٍ رئيسية من الخلايا المناعية، وتحديداً الخلايا المناعية التي تقاوم أمراضاً معينة.
وقد أوضحت «جينيفر لايتر»، طبيبة الأمراض الوبائية للأطفال وعالمة الأوبئة في مركز جامعة لندن لانجون الطبي، للواشنطن بوست أن هذه الدراسات تكمّل بعضها البعض، وأنها «تشرح آلية تعرض الطفل لضعف المناعة بعد إصابته بالحصبة، وتبين مدى خطورة هذا الأمر».
بينت دراسة «مينا وإيلدج» أيضاً، والتي استخدما فيها أدارة «فيراسكان - ViraScan» للكشف عن الأجسام المضّادة، كيف أن الأطفال الذين أُصيبوا بالحصبة سابقاً، ثم تعرضوا لعدوىً فيروسية جديدة من نوعٍ آخر لم يصابوا بها سابقاً، استجابوا بشكلٍ طبيعي لها. يقول مينا بهذا الصدد: «إنها علامةٌ على أنّ فيروس الحصبة لم يؤثّر على قدرة الجهاز المناعي لمقاومة مرضٍ جديد، بل أزال فقط الحماية المناعية التي اكتسبها الطفل ربما ضد الأمراض التي أًصيب بها في السابق»، ويضيف مينا: «أقصد تحديداً الذاكرة المناعية، وليست قدرة الخلايا المناعية على الاستجابة للمرض في المستقبل».
تشير النتائج إلى أن الأبحاث في المستقبل يجب أن تسعى لإيجاد طرقٍ لتخفيف الأضرار المناعية طويلة الأجل بعد إصابة الطفل بالحصبة؛ كما يقول مينا. على سبيل المثال، قد يحتاج هؤلاء الأطفال إلى تطعيمهم مجدداً ضد الأمراض التي أخذوا لقاحاتٍ لها سابقاً.
ويضيف مينا أخيراً: «نأمل حقاً أن يبين هذا البحث الجديد أن عدم تطعيم الأطفال له عواقب خطيرةٌ جداً على صحتهم، يجب تطعيم الأطفال لكي نبني لديهم ذاكرةً مناعية قوية، ولا داعي للخوف من الآثار الجانبية للقاح إطلاقاً».