كيف تساعد رائحة الأم صغيرها على الارتباط بالغرباء والثقة بهم

رائحة الأم
حقوق الصورة: ميهايل بوستوفيت/ شترستوك.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إن الأطفال، على الرغم من البهجة التي يضفونها على حياة والديهم، إلا أنهم يضيفون كذلك بعض الارتباك والصعوبات، وخصوصاً في بداية حياتهم. ومن أمثلة ذلك محاولاتهم التشبث بوالدتهم عند مغادرتها، ولو كان ذلك يقتصر على مغادرة الغرفة فقط. وعلى الرغم من لطافة هذا الموقف، إلا أنه قد يشكل عائقاً أمام مهامٍ أخرى. لكن دراسةً جديدة تقترح حلاً سهلاً للمساعدة في تخفيف واحدة من أقوى القوى في الطبيعة، الرابطة بين الأم ورضيعها: وهو قطعة من الملابس البالية.

الرائحة: أولى وسائل التواصل

وفقاً لبحثٍ نُشر بتاريخ 10 ديسمبر/كانون الأول من عام 2021 في دورية “ساينس أدفانسز” (Science Advances)، فإن الإشارات الكيميائية التي تطلقها الرائحة الفريدة للأم قد تساعد الأطفال على الارتباط بالغرباء، حتى عندما تكون الأم غائبة.

تعرّض الأطفال الذين أجريت عليهم الدراسة لرائحة أجسام أمهاتهم من خلال ارتداء الغرباء الذين قابلوهم ثياب أمهاتهم. وكان أولئك الأطفال قادرين على الارتباط مع الكبار الغرباء بسهولةٍ أكبر من أولئك الذين تعرّضوا لقميص نظيف.

هذا اكتشافٌ قد يساعد الوالدين على تقاسم واجبات تربية الأطفال، إذ تقول روث فيلدمان، عالمة الأعصاب والمؤلفة المشاركة في الدراسة: “الأمر المثير في ذلك هو أنه يمكننا تفويض أدوار الأبوة والأمومة بين الوالدين”، حيث تشير النتائج إلى أنه بمجرد وجود رائحة الأم، يمكن لشخص بالغ آخر أن يؤدي دوراً مشابهاً -بشكلٍ جزئي- للدور الذي تؤديه في النمو الاجتماعي والعاطفي للطفل.

تساعدنا رائحة الجسم على التواصل مع الآخرين وفهمهم، فمن منظور تطوري، إن سر بقاء الإنسان العاقل وازدهاره وغزوه العالم هو قدرته الفريدة على التواصل. لكن حاسة الشم لدينا، والتي كانت واحدة من أولى الحواس التي طوّرها البشر، غالباً ما كان يتم تجاهلها في دراسة التواصل بين الوالدين والرضع مقارنة بالبصر والسمع.

إن أسباب عدم دراسة الروائح في الدراسات العصبية الاجتماعية متنوعة، أحدها أمرٌ لوجستي، فالروائح معقدة ويصعب التلاعب بها في المختبر، كما أن رائحة الجسم ليست رائحةً واحدة، بل هي مزيج من الإشارات الكيميائية. والسبب الآخر وراء عدم دراسة الروائح هو أن البشر يقومون بالتقاط عينات من روائح محيطهم دون وعي طوال الوقت، لذا تؤثر الروائح على حالتنا العقلية ونشاط دماغنا وحالتنا الهرمونية وتفاعلاتنا الاجتماعية غالباً دون أن نلاحظها.  وإذا نظرنا إلى القرارات الرئيسية التي نتخذها في الحياة، مثلاً إذا كان الأمر يتعلق بما نأكله، ومع من يجب أن نتزاوج، فإن حاسة الشم جزء مهم جداً لا يجب إغفاله.

اقرأ أيضاً: 11 اختراعاً مرعباً لرعاية الأطفال من أوائل القرن العشرين

دراسة التواصل الدماغي

توصل الباحثون بالاعتماد على نتائج الأبحاث السابقة التي أجريت على القوارض إلى أن الروائح يمكن أن تكون حاسمة لقدرة الصغار على التعرف على والدتهم والتواصل معها، لكن القليل من الدراسات فحصت هذه الظاهرة لدى البشر. كان الفريق مهتماً بشكلٍ خاص بكيفية تأثير رائحة الأم على سلوك ونشاط دماغ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 إلى 10 أشهر. وبحسب الباحثين، فإن نطاق العمر هذا مهم لأن “الدماغ الاجتماعي” للطفل يتطور بسرعة في هذه الفترة؛ ويُقصد بذلك المناطق في الدماغ المسؤولة عن التنظيم العاطفي والتواصل الاجتماعي.

وكان لدى الباحثين أيضاً فضولٌ حول دراسة تأثير وجود أو غياب رائحة الأم على “التزامن العصبي” بين الرضيع والبالغ. ويقصد بذلك ما يحدث في المواقف الاجتماعية عندما يبدأ نشاط الدماغ البشري بالارتباط مع نشاط الدماغ لأولئك الذين نتفاعل معهم.

المحادثة أو الاتصال بالعين كافيان لتنشيط الخلايا العصبية لشخصين مختلفين في مناطق متشابهة من الدماغ. وتم ربط هذا النوع من الانعكاس بين دماغ الوالد أو الوالدة والرضيع بالتطور العاطفي للطفل، ما جعل الباحثين يتساءلون كيف يمكن أن تؤثر الرائحة على مستوى التزامن العصبي بين الأم والطفل.

رائحة الأم
حقوق الصورة: أرينا أوزيروفا/ شترستوك.

في دراستهم التي شملت 62 امرأة، أعطى الباحثون كل أم قميص نوم قطني لمدة ليلتين متتاليتين. خلال النهار، قامت الأمهات بتخزين قمصانهنّ في وعاء زجاجي في الثلاجة. بعد ذلك، أحضرت كل أم طفلها وقميصها البالي إلى المختبر، ووضع الباحثون أقطاب تخطيط كهربية الدماغ على رؤوس المشاركين لقياس موجات الدماغ أثناء تفاعلهم في ظل ظروفٍ مختلفة.

تم تصميم السيناريو الأول لمنح العلماء فهماً أساسياً للتزامن الدماغي للأمهات وأطفالهن ولم يتضمن القمصان على الإطلاق، إذ جلست كل أم وطفلها أولاً في وضع ظهر لظهر، ثم وجهاً لوجه؛ الأمهات على الكراسي والأطفال في المقاعد المرتفعة. وكما توقع الباحثون، وجدوا أن التزامن العصبي كان أعلى بين الأم والرضيع أثناء التفاعلات وجهاً لوجه.

وبعد ذلك، كرروا التجربة مع نفس مجموعة الأطفال، لكن هذه المرة قدّموا امرأة غريبة تعيش في المنطقة ولديها طفل في نفس العمر. وأثناء تفاعل الأطفال مع الشخص الغريب، وضع الباحثون إما قميصاً نظيفاً أو بالٍ على دفة المقعد المرتفع أو بالقرب من وجه الطفل لمعرفة ما إذا كانت رائحة الأم القريبة قد غيّرت سلوك الرضيع.

ووجدوا أن الأطفال الذين تعرّضوا لقميصٍ نظيف أظهروا تزامناً دماغياً أقل بكثير عند التفاعل مع الشخص الغريب مقارنةً به لدى التفاعل الذي قاموا به مع وجود الأم. ولكن عندما تعرض الأطفال لقميص برائحة الأم، أظهروا نفس درجة التزامن العصبي -الدماغي- في كلا السيناريوهين مع الأم ومع الشخص الغريب.

عندما تفاعل الأطفال مع “الأم الغريبة” في ظل وجود رائحة جسد الأم الأصلية، ارتفع التزامن الدماغي، كما لو أن الرضيع يثق في المرأة الأخرى. وبالإضافة إلى زيادة التزامن العصبي، أظهرت النتائج أن الأطفال الذين تعرّضوا لرائحة أمهاتهم أثناء التفاعل كانوا أكثر استرخاءً، وابتسموا أكثر، وقاموا بتواصل بصري أكبر مع الغرباء.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن يزيد تدريب الأطفال على إعداد قوائم المشتريات والمائدة استعدادهم للتعلّم؟

بوابةٌ لأبحاثٍ أوسع

إن اكتشاف أن رائحة الأم تلعب دوراً مهماً في راحة الطفل هو تأكيدٌ علمي جيد لما يفعله العديد من الآباء بالفعل، فإذا غادرت الأم للعمل، على سبيل المثال، فقد تترك بطانية أو قطعة من الملابس برائحتها لتهدئة طفلها. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فمن المحتمل تطبيق هذا البحث في الأوساط الطبية أيضاً،  عندما تنفصل الأم عن طفلها في مستشفى مثلاً.

يقرّ الباحثون أن مجال أبحاث الروائح ينمو بسرعةٍ كبيرة لدرجة أن هذه الدراسة هي مجرد دراسة سطحية للموضوع، ولدى الفريق البحثي فضولٌ حالياً لمعرفة ما إذا كانوا قادرين على تحديد جزيء معين أو مادة كيميائية محددة في رائحة الأم تقود هذه العمليات.

لكن في الوقت الحالي، يمكن للآباء أن يشعروا بالراحة لحقيقة أن طفلهم يميز الرائحة ويتذكر رائحتهم الفريدة، وأن هذه الرائحة يمكن أن تساعد الرضيع على الارتباط بالآخرين، فنحن نشم أطفالنا طوال الوقت، وهم يشموننا، وهذا مفيدٌ لنا ولهم.