للبكتيريا دورٌ كبيرٌ في حياتنا، ورغم ذلك؛ غالباً ما نقلل من أهميتها، فمن الزراعة إلى الصناعة وحتى الطعام، تُعتبر هذه الميكروبات ضروريةً بطريقة لم تكن حتى لتتخيلها.
على سبيل المثال: يستخدم البشر الخلّ للحفاظ على الأطعمة وتنظيف المنازل منذ آلاف السنين؛ لكن قد لا تتوقع أن المسؤول عن إنتاج هذا الحمض واسع الاستخدام هو البكتيريا. تُدعى مجموعة الميكروبات (تتكون من 10 أجناس من الفصيلة الخلالية) المسؤولة عن إنتاج الخل «بكتيريا حمض الخلّيك»؛ حيث تستهلك هذه الكائنات الدقيقة الإيثانول لإنتاج الطاقة، مُطلقةً جزيئات حمض الخليك، وبالتالي فإن الخلّ في الأساس هو عبارةٌ عن منتجٍ بكتيري.
الخل: منتجٌ بدأ ثانويّاً
في العصور القديمة، غالباً ما كانت التوابل منتجاً ثانوياً لعملية تخمير المشروبات الكحولية. كان اسمها الأصلي «vin aigre»؛ والذي يعني ببساطة «النبيذ الحامض» بالفرنسية. وحتى بعد أن أصبح صنع حمض الخل عمليةً مستقلة بحد ذاتها، كانت طريقة إنتاجه تنطوي على التخمير المراقب؛ حيث يملأ منتجو الخلّ برميل الخشب حتّى ثلاث أرباعه بمادةٍ مصدرةٍ للإيثانول، ويتركون ثقوباً أعلى البرميل بعد تغطيته للسماح للأكسجين بالدخول إليه، ثم يقومون بإضافة الخميرة إلى المزيج، أو كانوا يعتمدون على الخميرة المتبقية في البرميل من عملية تحضير الخل السابقة.
تختلف أنواع الخلّ حسب المادة الأولية التي تُحضر منه. على سبيل المثال: يُحضّر خل التفاح من ثمار أو عصير التفاح حيث يُعتبر مصدراً للسكر، وهكذا؛ يُحضر خل الشعير من الشعير، وخل البلسمك من ثمار العنب الكاملة المسحوقة. تقوم الخميرة أولاً بهضم السكريات وتحويلها إلى إيثانول، وعند هذه المرحلة، يأتي دور بكتيريا حمض الخليك - أي يبدأ إنتاج خل النبيذ بعملية تخمير النبيذ النموذجية؛ والتي تذهب إلى أبعد من ذلك بإضافة بكتيريا حمض الخليك. يمكن تحويل النبيذ الأحمر والنبيذ الأبيض ونبيذ الأرز والشمبانيا إلى الخلّ الموافق لكل منهم باستخدام هذه الطريقة.
وفقاً لدراسةٍ أجراها باحثون عام 2008 من جامعة ليوبليانا في سلوفينيا؛ تستغرق هذه العملية برمتها من شهر إلى ثلاث أشهر. ومع ذلك، فإن الوقت الطويل يسمح بالتطور البطيء للنكهة والرائحة الغنية ويسمح بإنتاج خلٍّ عالي الجودة.
بكتيريا حمض الخليك: المساعدة في الإنتاج الحديث للخل
لكن الحرفيين الفرنسيين هذه الأيام لا يحضرون معظم أنواع الخلّ باستخدام البراميل الخشبية؛ إذ يتطلب إنتاج كمياتٍ كبيرةً منه -أي على المستوى الصناعي- استخدام أحواض كبيرة من الفولاذ المقاوم للصدأ. بمجرّد تخمير السكريات، يضيف المنتجون إحدى أنواع بكتيريا حمض الخليك الأربع؛ (أسيتوباكتر، غلوكوناسيتوباكتر، غلوكوناباكتر، كوماغاتيباكتر)، ثم يتم ضخّ القليل من الأكسجين لتحفيز البكتيريا لبدء التفاعل، ويُهوى المزيج ويحرّك باستمرار عند درجة حرارةٍ دقيقة (عادةً عند 30 درجة مئوية) لضمان توفير بيئةٍ مناسبة كي تعمل البكتيريا. خلال يومٍ أو يومين، تكون البكتيريا قد استهلكت الإيثانول بالكامل وأفرزت حمض الخليك.
في نهاية العملية، يُخفف الخليط الحمضي بالماء لتحقيق الجودة والنكهة المطلوبتين. في الولايات المتحدة، تطلب إدارة الغذاء والدواء أن يحتوي المنتج النهائي على 4% على الأقل من حمض الخليك ليُباع على أنّه خل، وتُعتبر نسبة الحموضة 5% قياسية، بينما تبلغ نسبة الحموضة في معظم أنواع خل النبيذ والبلسمك بين 6 و 7%. وأي محلولٍ تزيد فيه نسبة الحموضة عن 15% يُستخدم للتنظيف وقتل الأعشاب الضارة.
وعلى غرار النبيذ؛ تساهم ما تفعله هذه الميكروبات في صناعة مواد غذائية أخرى شائعة، كالجبن والبيرة؛ حيث تُعتبر بكتيريا حمض الخليك من القوى المحركة القوية في تحويل الإيثانول إلى حمض الخليك لأن الإيثانول مصدر طاقتها.
كيف تعمل بكتيريا حمض الخليك
أثناء تحويله، تُجرد البكتيريا جزيئات الإيثانول من الإلكترونات، ثم تستخدمها لتشغيل أجهزتها الخلوية. يمكنها القيام بذلك بشكل فعال لأن جميع العناصر الخلوية اللازمة للقيام بهذه العملية موجودةٌ على سطح غشاء الخلية؛ حيث لا يتعيّن على البكتيريا إدخال جزيئات الإيثانول إلى داخلها؛ وبالتالي تتم عملية التحويل بأكملها على سطح الخلية مباشرةً.
ومثل كل التفاعلات الصغيرة التي تحدث في الخلية الواحدة في أي وقت، فإن التحويل الذي تقوم به بكتيريا حمض الخليك يتطلب ظروفاً مثاليةً لإنتاج الخل بكفاءة أكبر؛ إذ لا يكفي وضع البكتيريا في وعاءٍ يحتوي الإيثانول فقط. تحتاج العملية إلى تهوية الخليط باستمرار وضبط درجة الحرارة بدقة.
للمساعدة في ذلك؛ يبحث العلماء الآن عن سلالاتٍ من هذه البكتيريا متكيّفة مع الحرارة - أي سلالاتٍ محددة تُظهر أداءً مثالياً في درجات حرارةٍ أعلى أو أقل من درجة 30 مئوية النموذجية.
في المناطق الحارة، يجب أن يشتري المزارعون نظام تبريد لضمان بقاء درجة الحرارة منخفضة لتلائم نشاط البكتيريا، بينما تواجه المناطق الباردة المشكلة المعاكسة. في كلتا الحالتين، تُعتبر مدخلات الطاقة والبنية التحتية المناسبة أمراً بالغ الأهمية لضمان بيئةٍ مثالية لنشاط البكتيريا. وفي هذا الصدد، فإن اكتشاف سلالاتٍ جديدة يمكنها تقليل الحاجة للطاقة المُستثمرة في التدفئة والتبريد، يمكن أن يجعل إنتاج الخل عمليةً مستدامةً أكثر، ومعقولة التكلفة عموماً.
بالرغم من التقدم الكبير في الكيمياء الحديثة؛ لم تُكتشف بعد بدائل حقيقية واعدة لتحلّ مكان بكتيريا حمض الخليك. وإلى أن يتمكن الباحثون من تحقيق ذلك مع تطور التقنيات المُستخدمة، سنبقى نعتمد على هذه الكائنات الدقيقة لملء رفوفنا بالخلّ لسنواتٍ عدة قادمة.