يعتقد بعض الناس أنه لكي تكون جيداً في مهنة معينة، ينبغي أن تتمتع بمهارات معينة. ولكن ماذا لو كان العكس؟ ماذا لو كانت مهنتك تساعدك على تطوير تلك المهارات؟ هناك بعض المهن التي يمكن أن تجعلك أكثر ذكاءً من خلال تحدي حواسك وعقلك، وتعزيز المهارات الإدراكية والمعرفية لممارسيها. إليك بعض الأمثلة حول كيف يمكن أن يكون العمل مفيداً لعقلك ومثمراً لجيبك.
تأثير العمل في القدرات الإدراكية
الهدف والغاية من الوظيفة هو كسب مال العيش، هذه هي الحقيقة العامة التي ندركها كلنا. إلّا أن للأبحاث رأياً آخر، فقد قارن باحثو جامعة نورثويست نورمال الصينية (Northwest Normal University)، في دراسة نُشرت في دورية علم النفس المعرفي التطبيقي (Applied cognitive psychology)، بين وظيفتي جامعي التذاكر وحراس الأمن، وقد تبين أن المهن التي تتطلب تشغيل الذاكرة العاملة، مثل جامعي التذاكر الذين يحتاجون إلى تذكر الطلبات وإدارتها، لها القدرة على تحسين القدرة المعرفية. والقدرة المعرفية، هي العمليات العقلية التي نستخدمها عندما نكون في حالة وعي تام، مثل الانتباه والذاكرة والمهارات اللغوية واتخاذ القرار وحل المشكلات والوعي البصري والتنظيم الذاتي العاطفي.
كما أشار باحثون من جامعة كامبريدج (University of Cambridge)، إلى أن أداء الأفراد الذين عملوا في وظائف صعبة عقلياً كان جيداً في اختبارات قياس الذكاء السائل، والذكاء السائل هو القدرة على التفكير في المشكلات وحلها.
بينما أظهر الأفراد في الوظائف التي تتطلب مهارات يدوية وعملاً بدنياً، أداءً أفضل في اختبارات قياس الذكاء المتبلور الذي يعتمد على المعرفة والخبرة.
باختصار، يمكن أن يؤثّر نوع العمل الذي تقوم به في قدراتك المعرفية بمرور الوقت.
اقرأ أيضاً: 10 نصائح لتعلم أطفالك الاعتماد على أنفسهم والدراسة بمفردهم
مهن تساعد على تعزيز المهارات الإدراكية والمعرفية لممارسيها
1. مطور البرمجيات
تتضمن مهنة مطور البرمجيات تصميم البرامج للشركات والمستهلكين باستخدام لغات البرمجة، وليتمكن المبرمج من النجاح في عمله يحتاج إلى تطوير مهاراته الإدراكية والمعرفية. ثمة العديد من الطرق التي قد تساعد فيها البرمجة وكتابة الأكواد على ذلك. مثل:
- تنشيط مراكز التعلم في الدماغ: تنشط البرمجة 5 مناطق في الدماغ، وهي المسؤولة عن معالجة اللغة والذاكرة العاملة والانتباه.
- بناء مسارات عصبية حديثة وتعزيز المسارات القديمة: مع تنشيط البرمجة لعدة مناطق في الدماغ، تنشأ مسارات عصبية جديدة، وتتعزز المسارات القديمة، ما يؤدي إلى أدمغة أكثر ديناميكية.
- تحسين الذاكرة: يحتاج تطوير المهارات البرمجية إلى ممارسة ما تعلمته بشكلٍ متكرر ما يحسّن من أداء الذاكرة.
- دعم المعالجة البصرية: يتطلب الترميز معالجة سريعة للبيانات، والتي يمكن تحسينها من خلال الإعداد البصري. يتضمن ذلك ممارسة صيغ البرمجة ومراجعة المفاهيم التي تم تعلمها عند العمل على المشاريع أو إنشاء التطبيقات.
- الذاكرة العاملة: في مرحلة ما أثناء التشفير لا بُدّ أن تواجه المبرمج عدة عثرات، ولحلها سيفعّل المبرمج أشياء غير مستخدمة حتى يعمل الكود الخاص به، ما يحسّن من الذاكرة العاملة، لأنها ارتبطت بالتشفير.
2. الموسيقيون
تجعل الموسيقى الحياة أفضل بطرق عديدة، فهي تقلل التوتر وتخفف الألم. ليس ذلك فحسب، بل إن للتدريب الموسيقي تأثيراً في نمو الدماغ والمهارات المعرفية. هذا ما أشارت إليه المراجعة المنشورة في دورية آفاق في علم الأعصاب (Frontiers in Neuroscience)، حيث وضّح الباحثون أنه يمكن للتدريب الموسيقي للأطفال أن يؤدي إلى زيادة المرونة العصبية في الدماغ، ما يعزز القدرات المعرفية المختلفة مثل الذاكرة اللفظية، ودقة نطق اللغة الثانية، والقدرة على القراءة، والوظائف التنفيذية.
علاوة على ذلك، أفادت المراجعة بأن تعلم العزف على آلة موسيقية في مرحلة الطفولة يمكن أن يتنبأ بالأداء الأكاديمي ومعدل الذكاء في مرحلة البلوغ، وفقاً لكثافة الممارسة ومدتها.
ومع ذلك، تتأثر الفوائد المعرفية للعزف الموسيقي بعدة عوامل، بما في ذلك مرحلة البدء بالعزف، والتحفيز، والمكافأة، والسياق الاجتماعي للتعليم الموسيقي.
اقرأ أيضاً: 5 حيل تقنية لتعلّم العزف على آلة موسيقية
3. الطيار المدني
يُبدي الطيارون اختلافاً في الاتصال الوظيفي للدماغ، هذا ما أوضحته الدراسة المنشورة في دورية بلوس ون (PLOS One). فوفقاً للباحثين، تتطلب مهنة الطيار المدني نشاطاً معرفياً عالي المستوى، وإلماماً بمعلومات معقدة وديناميكية، ما قد يفرض نمطاً مختلفاً من الاتصالات العصبية في الدماغ مقارنة بغير الطيارين.
ومقارنة بالمجموعة الضابطة، أظهرت صور الرنين المغناطيسي للطيارين:
- انخفاض في الاتصال الوظيفي داخل الشبكة التنفيذية المركزية (Central executive network)، وهو ما يرتبط بمهارات ضبط النفس وتقييم المخاطر والمحفزات.
- تحسُّن الاتصالات الوظيفية بين الشبكة التنفيذية المركزية والشبكة البارزة (Salience network) وشبكة الوضع الافتراضي (Default mode network) أو (DMN)، وهو ما يرتبط بالأداء المعرفي العام.
وفي دراسة مماثلة نُشرت في دورية آفاق في علم الأعصاب (Frontiers in Neuroscience)، أظهر الطيارون زيادة في الاتصال الوظيفي داخل (DMN) في حالة الراحة. تُعرف هذه الشبكة بـ "الطيار الآلي"، لأنها تنشط في حالات:
- الشرود الذهني.
- التفكير الذاتي المرجعي (التفكير في أفكار الفرد أو معتقداته أو تجاربه).
- التبديل بين المهام المعرفية.
أي أن التنشيط المتكرر لـ (DMN) بممارسة مهنة الطيران يؤدي في النهاية إلى تعزيز مستوى نشاطها حتى خلال حالات الراحة.
4. الترجمة
وفقاً للمترجمة مارينا لي (Marina Lee)، الحاصلة على درجة الماجستير في اللغويات والترجمة من جامعة بياتيغورسك اللغوية الروسية (Pyatigorsk National Linguistic University)، فإن للترجمة نوعين:
الترجمة الفورية
الترجمة الفورية هي التي نشاهدها في المحادثات أو الفعاليات الحية مثل المؤتمرات والمحاضرات. يعمد المترجم للاستعانة بتدوين الرموز والمقاطع وفق نظام يمكّنه من إعادة تفكيكها لبناء معنى للنص، وهنا تكون مهمتهم مزدوجة؛ فهم وتذكر الروابط المنطقية بين الأجزاء، وإعادة إنتاج المعنى تماماً في الوقت ذاته. على الرغم من أن المترجم قد يُضحي في الأسلوب في معظم الأوقات من أجل الوقت. تتطلب هذه المهام مجموعة من العمليات المعرفية في آنٍ واحد، وتشغيلاً لدوائر المعالجة المعرفية في الدماغ، بالإضافة إلى الذاكرة قصيرة الأمد.
الترجمة التتابعية
الترجمة التتابعية هي عملية تحويل النص إلى لغة أخرى في مراحل، فتتضمن فهم النص وتحويله إلى اللغة الهدف، مع الحفاظ على الأسلوب، أي أن تحويل المعنى وإعادة إنتاجه يتأخر عن مرحلة استقبال الرسالة وفك شفرتها، وغالباً ما نجدها في الترجمة الكتابية في الكتب والمقالات. لا تتطلب الترجمة التتابعية تشغيل ذاكرة قصيرة المدى أو معالجة متزامنة للمعلومات، إذ يمتلك المترجم وقتاً أكبر من الترجمة الفورية، فيحتاج إلى تشغيل مهارة جديدة وهي الإتقان اللغوي، أي مهارة وكفاءة أسلوبية.
اقرأ أيضاً: لماذا يجب عليك تعلّم لغتين في الوقت نفسه؟
إذاً، إن المهنة التي تتطلب مهارات عالية تمنحك بالمقابل مهارات إدراكية ومعرفية عالية. لذا، مهما كان مجال تخصصك، انخرط في مجالات العمل لصقل قدراتك المعرفية وتحسين أدائك العام في الحياة المهنية.