أدت جائحة فيروس كورونا إلى إغلاق المدارس في جميع أنحاء الولايات المتحدة -والعالم- لعدة أشهر؛ مما أدى إلى تحوّل الفصول الدراسية إلى التعلّم عن بُعد عبر الإنترنت، وأجبر الآباء والمعلمين على الارتجال في كثيرٍ من الأحيان، والآن، ومع تسارع توزيع اللقاح وحلول فصل الربيع وظهور بوادر لانتهاء الجائحة، بدأت بعض المدارس بفتح أبوابها تدريجياً -حتى ولو جزئياً- مستقبلةً في المقام الأول الطلاب الأصغر سناً، واتباع نظام الحضور بالتناوب بين الحضور الفعلي والدروس عبر الإنترنت بما يتناسب مع إجراء التباعد الاجتماعي.
ولكن لا تزال الكثير من المدارس مغلقةً في العديد من المناطق في الولايات المتحدة، وبعض المناطق في العالم؛ بما فيها المناطق ذات الدخل المنخفض، وفي هذا الصدد، تشير العديد من الأبحاث إلى أن إجراءات الإغلاق تتسبب في المزيد من الخسائر التي قد تصل إلى مرحلةٍ كارثية على رفاهية الطلاب، بينما يقول خبراء الصحة العامة أن هناك إمكانيةً لإعادة فتح المدارس مع خفض المخاطر؛ بشرط التزام المدارس بالتدابير المناسبة للحدّ من انتشار الفيروس.
التعلّم عن بُعد صعباً كان على الأطفال
أشارت معظم الدراسات إلى أن إغلاق المدارس على الطلاب كان سيئاً للغاية. في الواقع؛ تسبب التحول إلى التعلّم عن بُعد -في كثيرٍ من الأحيان- في حدوث ضرر شديد على عملية التعلّم طويلة الأجل للأطفال، ومتوسط العمر المتوقع لهم بطرقٍ ستظلّ محسوسة لعقود من الزمن، كما ضاعت عليهم بعض الفصول الدراسية، وأصبحت الدروس غير منتظمة.
تُلقي هذه الآثار بظلالها أكثر على الطلاب منخفضي الدخل. يقول الدكتور «دان كوبر»؛ طبيب الأطفال في جامعة كاليفورنيا في إيرفين: «كان الجزء الأكبر من المدارس التي ظلت مغلقة ... هي مدارس تميل إلى خدمة الأطفال من ذوي الدخل المنخفض».
في الحقيقة؛ إذا لم يتمكن الأطفال ميسوري الحال من الذهاب إلى المدارس، فبإمكانهم الاعتماد على مساعدة معلمين مستقلين، أو مجموعات تعليمية خاصة، إلا أن هذه الموارد ليست متاحة للأطفال الأقل دخلاً بشكلٍ عام، بل وقد تكون مساعدة أحد الوالدين لأطفالهم في أداء الواجبات المنزلية صعبة نظراً لحاجتهم أحياناً إلى العمل في عدة وظائف لإعالة أسرهم.
بالإضافة إلى ذلك؛ فإن المدارس بالنسبة لكثيرٍ من الطلاب هي أكثر من مجرّد مكانٍ للتعلّم، هي بمثابة شريان حياة. إذ تقدم المدارس وجبات للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، وخدمات الصحة العقلية والنمائية والتنشئة الاجتماعية الصحيحة، وحتى إتاحة ممارسة الرياضة.
وغالباً ما يعتمد الأطفال المصابون باضطرابات طيف التوحد، أو التأخر في النمو بأنواعه المختلفة على المساعدة التي يقدمها موظفو المدرسة للحصول على الخدمات الحيوية. في الواقع؛ سيعاني الطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة كثيراً مع إجبارهم على التحوّل للتعلم عن بُعد، وعدم وجود المتخصصين الذين يفهمون احتياجاتهم. يثير ذلك الأمر القلق حول صحة هؤلاء الأطفال، وتتفاقم هذه المخاوف مع إدراك أن الأطفال يواجهون طوفاناً من الاضطراب العاطفي المرتبط بالجائحة في كلّ مكان.
كما أن صحة الأطفال البدنية آخذةٌ في التدهور. حيث يقول كوبر: «لقد ازداد وزن المراهقين وصغار السن في الولايات المتحدة مع إغلاق المدارس التي تمثّل المكان الرئيسي لممارسة الرياضة بالنسبة لهم. إننا نشهد جائحة أخرى تزداد سوءاً مع عمليات الإغلاق».
ستؤدي هذه المشاكل مجتمعةً إلى معاناة الشباب في أميركا في المستقبل. وفي هذا الصدد، تتساءل «إميلي أوستر»؛ باحثة اقتصاديات الصحة والتنمية في جامعة براون قائلةً: «هل قام أي شخصٍ حقاً بتقدير أثر هذه المشاكل وحجم الخسائر التي تسببت بها تماماً؟ لست متأكدة! لكن هذه الخسائر حدثت بالتأكيد».
إعادة فتح المدارس ليس بالمهمة المستحيلة
نجحت بعض الأنظمة المدرسية في الولايات المتحدة بإعادة فتح أبوابها بنجاح، بعضها بشكلٍ كامل والآخر جزئياً، رغم معارضة نقابات المعلمين. ففي حين أن العديد من المدارس العامة لا تزال مغلقة؛ تمكنت الكثير من المدارس الخاصة والأبرشية (التابعة لمنظمات دينية) من إعادة فتح أبوابها واستقبال الطلاب. يشير كوبر إلى أن المدارس الأبرشية أُعيد فتحها مع حفاظها على تقديم خدماتها لفئاتٍ طلابية متنوعةٍ اجتماعياً واقتصادياً.
يعتقد كوبر أيضاً أن المدارس العامة في المناطق ذات الدخل المرتفع يمكنها الاستفادة من حقيقة أنه غالباً ما يكون آباء الطلاب من الأطباء والعاملين في مجال الرعاية الصحية، حيث يمكنهم تقديم معلوماتٍ طبية موثوقة إلى المدارس والمساعدة في إعادة فتحها بطريقة آمنة.
يمكن للمدارس حماية الأطفال والمعلمين من خلال اتباع تدابير بديهية بسيطة -إلى حدٍ ما- في هذه المرحلة من الجائحة، مثل ارتداء الكمامات وغسل اليدين بشكلٍ متكرر، والحرص على تهوية الفصول الدراسية جيداً، وإعطاء الدروس في أماكن مفتوحة إن أمكن ذلك، والالتزام بالتباعد الاجتماعي. وفي هذا الصدد؛ ينبغي ألا تكون تدابير التباعد الاجتماعي في المدرسة معقدة، حيث يمكن للمدارس اتباع استراتيجياتٍ بسيطة مثل؛ توزيع مقاعد الدراسة بشكل جيد، أو وضع حواجز بينها ببساطة، أو توزيع الطلاب في مجموعاتٍ صغيرة.
ولكن مع قلة المساحة المتوفرة وارتفاع تكلفتها، فقد أُعيد فتح العديد من المدارس جزئياً حرصاً على توفير التباعد الاجتماعي المناسب، وإعطاء بعض الفصول بحضور الطلاب، وإعطاء فصولٍ أخرى عن بعد. يمكن للطلاب أيضاً التناوب على المجيء إلى المدرسة، أو قد يُسمح لطلاب الصفوف المبكّرة فقط بالحضور؛ حيث تشير الدراسات إلى الأطفال الأصغر سناً لا ينشرون فيروس كورونا بنفس القدر الذي ينشره الأطفال الأكبر سناً.
يمكن للآباء أيضاً لعب دورٍ مهم في إعادة فتح المدارس بأمان بالطبع. على سبيل المثال؛ إذا ظهرت أي أعراض مرضية على الأطفال، وخصوصاً الحمى، يجب على الوالدين إبقائهم في المنزل. ووفقاً لخبراء الصحة؛ من المهم الحفاظ على التواصل السليم بين المدرسة والعائلات لضمان سلامة الطلاب والمعلمين على حدّ سواء.
وبالتأكيد ما تزال أمامنا مشكلة أخرى: متى يحصل الأطفال على اللقاح؟ مع متابعة التجارب؛ من المرجّح أن يكون هناك بعض الجدل حول الموعد المناسب للبدء بإعطاء اللقاح للأطفال. لكن مجدداً؛ يقول خبراء الصحة العامة أنه ليس من الضروري، في الوقت الحالي على الأقل، تطعيم الأطفال لإعادة فتح المدارس، شريطة أن يكون بوسعها اتخاذ تدابير السلامة المناسبة.
كما يشير مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها أنه ليس بالضرورة تطعيم المعلمين لإعادة فتح المدارس أيضاً. ويتفق كوبر مع هذا الرأي قائلاً: «أنا مع فكرة تطعيم كادر المعلمين بأسرع وقتٍ ممكن، ولكنني لا أضع ذلك ذلك شرطاً أساسياً لإعادة فتح المدارس إطلاقاً».
بين إرشادات مركز السيطرة على الأمراض ورأي الخبراء
أصدر مركز السيطرة على الأمراض معايير مفصلة حول إمكانية إعادة فتح المدارس، وذلك اعتماداً على عدد الحالات في المجتمع المحلي، ومعدلات الاختبارات الإيجابية. وبشكلٍ عام؛ يوصي المركز بإعادة فتح المدارس جزئياً؛ خصوصاً المدارس الابتدائية في الأماكن التي ترتفع فيها هذه الأرقام.
مع ذلك؛ تبقى معدلات العدوى أعلى من الحدود التي أوصى بها مركز السيطرة على الأمراض في معظم أنحاء البلاد لإمكانية فتح المدارس؛ رغم مضي عدة أشهر على انخفاض الحالات وزيادة التطعيمات. إلا أن بعض الخبراء لا يتفق مع هذه التوصيات بحجة أنها مبالغٌ بها، وستمنع الكثير من الطلاب من الالتحاق بالمدرسة.
بينما يشكك البعض الآخر في جدوى اتباع نظامٍ ينطوي على توزيع الفصول الدراسية بين الحضور شخصياً أو عبر الإنترنت. حيث يشيرون أنه بالرغم من أن هذا النظام يهدف إلى تحقيق أقصى استفادة للطلاب؛ لكنه أيضاً يعرقل عملية التعلّم، وفوائده ليست واضحة. تقول أوستر في هذا الصدد: «البيانات حول فعالية هذا النظام شحيحة حتى الآن، لكن هناك بعض الأدلة تشير إلى هذا النظام الهجين يقلل من خطر انتقال العدوى».
كما يشير المشككون في جدوى هذا النظام الهجين إلى حقيقة أنه بالرغم من أن الفصول الدراسية ستكون أقل ازدحاماً، فلا ضمانة هناك بأن الطلاب الذين يتعلمون عن بُعد سيبقون في المنزل. تقول أوستر في هذا الصدد أيضاً: «إذا كان أطفالك يذهبون إلى المدرسة 3 أيام فقط في الأسبوع، فلا بدّ أنهم يفعلون شيئاً آخر في اليومين الباقيين. ربما قد يتفاعلون مع عددٍ أكبر من الناس، وذلك أسوأ بكثير في الواقع».
ما هي المخاطر؟
تنطوي إعادة فتح المدارس على بعض المخاطر بالتأكيد، ولكن، وعلى سبيل المثال، من الصعب في الولايات المتحدة معرفة أيهما أخطر نسبياً؛ إعادة فتح المدارس أم إبقاء المطاعم مفتوحة. تقول أوستر: «يُعد نظام تتبع جهات الاتصال في الولايات المتحدة ضعيف جداً، لذلك من غير الواضح ما هي الإجراءات الخطرة أو غير الخطرة».
لقد وجدت دراسة في السويد -حيث واصل الطلاب من كل المراحل الذهاب إلى المدرسة في ذروة الجائحة- أن المعلمين في الفصول الدراسية كانوا أكثر عرضة للإصابة بالعدوى مقارنة بمن يعملون عن بُعد. لكن المدارس السويدية لم تتبع إجراءات السلامة مثل ارتداء الكمامات بشكلٍ صحيح. في الواقع، لقد كان الأمر متروكاً للمدارس لاتباع ما تراه من إجراءاتٍ مناسبة، وذلك هو الدرس الذي يمكن الاستفادة منه في إعادة افتتاح المدارس في الولايات المتحدة.
ومع ذلك؛ لا ينبغي تجاهل التحدّيات. فضمان التهوية الكافية مثلاً ليس سهلاً دائماً، لا سيما في المباني القديمة والضيقة. أو قد يكون الحفاظ على التباعد الاجتماعي طوال اليوم الدراسي صعباً. فإذا تناول أطفال المدارس طعام الغداء معاً؛ سيتعين عليهم خلع الكمامات وهم على مقربةٍ من بعضهم البعض، وهذا مثير للقلق للغاية. إذ تشير الدراسات إلى أن قضاء وقتٍ طويلٍ بدون كمامات في غرف تناول الطعام وغرف الاستراحة؛ كان عامل خطورةٍ كبير للإصابة بفيروس كورونا.
لكن في المقابل يقول خبراء الصحة العامة أنه لا يوجد دليلٌ على حدوث ارتفاعٌ في أعداد الإصابات عقب إعادة فتح المدارس، سواء جزئياً أو كلياً. يقول كوبر في هذا الصدد: «تشير البيانات، حتى منذ بداية الجائحة، إلى أنه إذا اُتخذت تدابير السلامة في المدرسة بشكلٍ صحيح، لن يكون هناك مبررٌ للقلق من أن تصبح المدارس بؤرة لنشر الفيروس. هذا لم يحدث في السابق».
وتوافق أوستر على ذلك قائلةً: «أعتقد أن معظم البيانات لدينا مطمئنة بالفعل. لا نعتقد أن المدارس ستكون بؤرة لنشر الفيروس في المجتمع».
في نهاية المطاف، ووفقاً لخبراء الصحة العامة؛ فإن الأمر يتعلّق بما إذا كانت المخاطرة باستمرار اتباع نظام التعليم عن بعد بشكلٍ كامل تستحق ذلك لتجنّب مخاطر نشر الفيروس أم لا. لكن الأدلة الحالية تشير إلى أن الخسائر الجسدية والعقلية والعاطفية التي يعاني منها الأطفال أكبر من أن يتم تجاهلها بالفعل.
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً