بات الناس يستخدمون الأجهزة الذكية بشكلٍ متزايد، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من تجربتنا البشرية حتى قبل بداية الجائحة بكثير، وينطوي هذا الاتجاه في جزءٍ كبير منه على مشاهدة المزيد من مقاطع الفيديو والمحاضرات التعليمية. على سبيل المثال؛ كان المواطن الأميركي العادي يشاهد مقاطع الفيديو لمدةٍ تصل إلى 6 ساعات يومياً قبل الجائحة على مختلف الأجهزة؛ مثل التلفاز وأجهزة الكمبيوتر والهواتف، ووفقاً لإحدى التقديرات، فإن هذا الرقم ارتفع بأكثر من 40% خلال الجائحة.
وفي هذا السياق، وضمن قطاع التعليم العالي؛ ارتفع معدّل مشاهدة الطلاب للمحاضرات المسجلّة عبر الإنترنت بشكلٍ كبير. كيف أثّر ذلك على التعلم؟ بالنسبة لمادة الرياضيات في الجامعة؛ أكدت مراجعة نُشرت مؤخراً النتائج التي توصلت إليها إحدى الدراسات التي جرت عام 2012؛ والتي تفيد أنه كلما شاهد الطلاب المحاضرات التعليمية المسجلة، كان أداؤهم أسوأ بشكلٍ عام.
وقد حددت الأبحاث الحديثة سبباً محتملاً لذلك قد يساعد في تفسير سبب اختلاف نتائج هاتين المراجعتين عن نتائج دراسات التعلّم من مقاطع الفيديو في التخصصات الأخرى.
كيف تؤثر مشاهدة مقاطع فيديو المحاضرات التعليمية على عملية التعلّم؟
بالطبع، الارتباط لا يعني السببية، فمن الممكن أن يميل الطلاب الأضعف إلى الاعتماد على مقاطع الفيديو أكثر من الطلاب الأقوياء على سبيل المثال، ومع ذلك، فهناك تفسير معقول بنفس القدر؛ وهو أن الاستخدام المنتظم لمقاطع فيديو المحاضرات التعليمية يقلل بطريقة ما من جودة تعلم الطلاب، لذلك صُممت دراسة من جزئين للتحقيق في هذا الاحتمال.
تضمن الجزء الأول من الدراسة إشراك مجموعتين من الطلاب الذين يتبعون دورات الرياضيات الهندسية في أستراليا والمملكة المتحدة، وأكمل الطلاب استبياناً لتقييم كيفية تعاملهم مع دراساتهم في بداية ونهاية كل دورة.
في كلتا الحالتين؛ وُجد أن من شاهد مقاطع المحاضرات التعليمية بشكلٍ منتظم تعلموا المادة بشكلٍ سطحي على مدار الفصل الدراسي، بينما لم يغيّر من شاهدوا مقاطع فيديو أقل أو لم يشاهدوها مطلقاً طريقة دراستهم، وجاء ذلك على الرغم من حقيقة أن مستخدمي الفيديو العاديين؛ مقارنةً بمستخدمي الوصول المنخفض، كانوا أكبر سناً في أستراليا، وأفضل مبدئياً في الرياضيات في المملكة المتحدة.
أدت هذه النتائج لإجراء الجزء الثاني من الدراسة؛ والتي انطوت على إجراء مقابلاتٍ مع المشاركين الأستراليين لاستكشاف كيفية استخدامهم لمقاطع فيديو المحاضرات التعليمية لتعزيز فهمهم للرياضيات، وبهدف توفير نظرة معمّقة حول العمليات الأساسية؛ بالتالي تصميم الدراسة الثانية. أجرينا مراجعةً للبحوث المعرفية حول استخدام التلفزيون أولاً؛ حيث تمت الاستعانة في هذا الصدد بأبحاث روبرت كوبي وسيكسيزينت ميهالي؛ مؤلفا كتاب «Television and the quality of life»؛ والذي يتناول أثر مشاهدة التلفزيون على الناس، ويلخصون بحثهم بقول: «في جميع العينات التي درسناها من مجموعات سكانية مختلفة وأشخاص تتراوح أعمارهم من 10 إلى 82 عاماً، ومع مجموعاتٍ من أكثر من بلدٍ واحد، وُجدنا أن المشاركين يصفون باستمرار تجربتهم مع التلفزيون على أنها تجربة سلبية ومريحة وتنطوي على تركيزٍ قليل نسبياً».
مع هذا الفهم؛ تم اعتبار العمليات المعرفية المرتبطة باستخدام مقاطع فيديو المحاضرات كنظام ثنائي العملية؛ أي أن الناس يميلون إلى التفكير أثناء مشاهدة مقاطع فيديو المحاضرات التعليمية المُسجلة باستخدام قناتين أو بطريقتين مختلفتين:
- التفكير «من النمط 1»: سريع وبديهي مع استخدامٍ ضئيل، أو معدوم للذاكرة العاملة.
- التفكير «من النمط 2»: بطيء وتحليلي مع استخدام الذاكرة العاملة.
تُعرّف الذاكرة العاملة على أنها «كمية صغيرة من المعلومات يمكن الاحتفاظ بها في الذهن، واستخدامها في تنفيذ المهام المعرفية».
استعرض الطلاب مقاطع الفيديو الخاصة بالرياضيات خارج بيئة المحاضرات النموذجية أو بيئة الفصل الدراسي كي يُتاح للطلاب التحكم باستخدامها بنشاط، لذلك ركّزت أسئلة المقابلة في الدراسة الثانية، على سبيل المثال؛ على النقطة الفاصلة التي يقيّم عندها الطلاب ما إذا كانوا يتعلمون شيئاً جديداً أم لا.
أُجريت مقابلات مع جميع المشاركين الأستراليين في نهاية الدورة، وأظهر تحليل ردودهم أن المستخدمين العاديين أكثر عرضةً لنمط التفكير من النوع الأول عند الحكم على تعلمهم، ولقد اعتمدوا بشكلٍ أساسي على «الشعور بالفهم الصحيح» بدلاً من التحقق من اتباع الخطوات الصحيحة مثلاً. في الواقع؛ قد يؤدي الشعور بالفهم الصحيح إلى تفكيرٍ خاطئ في الرياضيات (تحليلٍ زائف)، بينما يؤدي اتباع الخطوات الصحيحة إلى الحلّ لصحيح.
اقرأ أيضاً: أكثر من مادة دراسية: الرياضيات تساهم في نمو الدماغ والإدراك
لماذا تختلف النتائج في التخصصات الأخرى؟
للوهلة الأولى؛ تتناقض هذه النتائج بشكلٍ كبير مع نتائج مراجعة منهجية حديثة خلصت إلى أن استخدام مقاطع فيديو المحاضرات التعليمية «كانت وسيلة جيدة للتعلّم»، ومع ذلك، فإن نظرةً متفحصةً للمراجعة تكشف أن معظم الدراسات المضمنة فيها؛ 96% منها تتعلق بالتدريس في التخصصات الجامعية التطبيقية مثل العلوم الصحية؛ والتي مثّلت أكثر من 80% من الدراسات المشمولة بالمراجعة، ولم تكن الدراسات حول استخدام فيديو المحاضرات التعليمية في الرياضيات أو غيرها من التخصصات المجردة التي تتطلب تفكيراً مفاهيمياً عالي المستوى جزءاً من المراجعة.
قد يشير ذلك إلى أن مشاهدة المحاضرات التعليمية المُسجلة ستساعد في التعلّم إذا كان مستوى التفكير المطلوب منخفضاً نسبياً؛ مثل تعلّم الإجراءات الطبية؛ ولكن لن يساعد بالضرورة على التعلّم إذا مستوى التفكير المطلوب عالياً؛ مثل اكتساب مفاهيم الرياضيات.
هناك حاجة بالتأكيد إلى مزيد من البحث، وما زلنا لا نعرف إلا القليل جداً عن عمليات التفكير عند مشاهدة مقاطع فيديو المحاضرات المحاضرات التعليمية المسجلة.
إحدى الأسئلة التي يطرحها البحث بالنسبة للرياضيات هو هل تم تكييفنا بأي شكل من الأشكال عبر قرنٍ من استخدام التلفزيون، بحيث عندما نشاهد محاضرةً تعليمية، فإننا نميل دون وعيٍ إلى تخفيف جهدنا العقلي. قد يكون ذلك كافٍ لتحقيق نتائج تعليمية أفضل عندما تكون المعالجة المعرفية المطلوبة لما تشاهده منخفضة المستوى؛ ولكنها يمكن أن تكون ضارةً عندما تكون المعالجة المعرفية المطلوبة عالية المستوى.
بعبارة أخرى وأشمل، وعلى غرار الطريقة التي يحفز بها النظر إلى الطعام على الحماس؛ يبقى السؤال هو: في أية ظروفٍ تعمل الشاشات على إرسال إشاراتٍ معرفية لمن يشاهدها للاسترخاء عقلياً؟
اقرأ أيضاً: هل يمكن للتكنولوجيا أن تحلّ محلّ المحاضرات التعليمية التقليدية؟
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.