شكّل اكتشاف النار نقطة تحول في تاريخ البشرية، وذلك لأهميتها الكبيرة في إعداد الطعام والتدفئة والدفاع عن النفس ضد الحيوانات المفترسة. لكن إضرام النار يحتاج شعلة، ولعل أشهر طريقة للحصول على تلك الشعلة قديماً هي ضرب حجريّ الصوان ببعضهما، لكن لا يملك كل شخص القوة لضرب الحجرين، كما لا يمكن لكل شخص أن يحمل حجرين في جيبه ليستخدمهما متى شاء، لذلك دفعت الحاجة الإنسان لابتكار شيء يمدّه بالشعلة ليضرم النار أينما كان ومتى شاء، وكان هذا الابتكار هو عود الثقاب. فما قصة اكتشافه؟ وكيف يعمل عود الثقاب؟
مبدأ عمل عود الثقاب
إن تفاعل الاحتراق هو المبدأ الذي يعتمد عليه إشعال عود الثقاب، فالاحتراق بشكل عام يبدأ بتكوّن اللهب الذي يحتاج وجود مادة كيميائية قابلة للاشتعال، وغاز الأكسجين الذي يعزز الاحتراق، ودرجة حرارة مناسبة تشتعل عندها المادة الكيميائية.
مكونات عود الثقاب
يتكون عود الثقاب من عصا خشبية ورأس، كل منهما يحتوي مواد كيميائية لها دور في اشتعال عود الثقاب. تكون العصا الخشبية مشرّبة بمادة فوسفات الأمونيوم ومغطاة بالبارافين، أما الرأس يحتوي على خليط من عدة مركبات هي ثلاثي كبريتيد الأنتيمون الذي يعمل كوقود، وكلورات البوتاسيوم وهي عامل مؤكسد، وكمية صغيرة من مسحوق الزجاج الذي يوفر الاحتكاك أثناء القدح، بالإضافة إلى الغراء والنشاء اللذان يوضعان على رأس عود الثقاب لربط المواد مع بعضها.
جميع المواد سابقة الذكر ليست مواد قابلة للاشتعال، إذاً كيف سيعمل عود الثقاب؟ توجد المادة القابلة للاشتعال على جانبي علبة أعواد الثقاب، أي على سطحيّ القَدْح. يتكون سطح القدح من الفوسفور الأحمر القابل للاشتعال، ومسحوق الزجاج الذي يعزز الاحتكاك.
- اقرأ أيضا: كيف تعمل الطابعة ثلاثية الأبعاد؟
كيف يعمل عود الثقاب؟
لكل مادة من المواد سابقة الذكر دور في عملية اشتعال عود الثقاب. عندما تمرر عود الثقاب على سطح القدح، تكون قد تسببت في احتكاك بين مسحوق الزجاج في رأس العود وسطح القدح، ينتج عن هذا الاحتكاك تحول القليل من الفوسفور الأحمر إلى الفوسفور الأبيض الذي يشتعل مشكلاً لهباً ينطفئ بسرعة.
للحفاظ على اللهب يجب تزويده بالأكسجين الموجود في الهواء، ويؤدي تفكك كلورات البوتاسيوم الموجودة في رأس العود إلى إطلاق الكثير من الأكسجين، ويصبح اللهب أكبر. يتحد هذا الأكسجين مع الكبريت ليزيد الاحتراق، ويصل إلى العود الخشبي، الذي يلتقط اللهب بسهولة لوجود البارافين، ويستمر بالاحتراق بالأكسجين الجوي حتى يحترق العود الخشبي بأكمله، والذي لا يتحول إلى رماد بسبب مادة فوسفات الأمونيوم المغطى بها.
قد يسأل البعض، لماذا لا يُضاف الفوسفور الأبيض القابل للاشتعال مباشرة بدلاً من الفوسفور الأحمر الذي يحتاج الاحتكاك ليشتعل؟ السبب في ذلك أن الفوسفور الأبيض يشتعل تلقائياً عند درجة 30 مئوية، وهي درجة حرارة الغرفة، مسبباً حرائق قد تكون كارثية، أما الفوسفور الأحمر فيشتعل عند درجة 240 مئوية، والتي يمكن الوصول إليها بالعمليات الكيميائية التي يمر بها اشتعال عود الثقاب، ما يضمن استخدام أعواد الثقاب بأمان.
قصة اختراع عود الثقاب
للحصول على اللهب، قبل اختراع عود الثقاب، شاع في الصين استخدام الأعواد الخشبية المغطاة بالمواد القابلة للاحتراق، مثل الكبريت. ومع تقدم علم الكيمياء، اكتشف العالم «جان شانسل» في باريس عام 1805، أن العصا الخشبية المغطاة بكلورات البوتاسيوم والسكر والصمغ يمكن أن تشتعل عند غمسها في حمض الكبريتيك، مطلقةً أبخرة سيئة للغاية.
بعد نحو 20 عاماً من تطوير الطريقة وتحديداً في عام 1828، سجل «صموئيل جونز» في لندن، براءة اختراع لصنعه «ثقاب بروميثيان» الذي يتكون من حبة زجاجية تحتوي على حمض، وتم طلاء الجزء الخارجي منها بتركيبة مشتعلة. عندما يُكسر الزجاج تحترق ورقة ملفوفة داخلها.
أما أول عود ثقاب يعتمد على الاحتكاك، فقد اخترعه الكيميائي والصيدلي الإنجليزي «جون ووكر»، وتم بيعه لأول مرة في 7 أبريل 1827. كان لأعواد الثقاب رؤوس مغطاة بمعجون من كلوريد البوتاسيوم وكبريتيد الأنتيمون والصمغ العربي، والتي تشتعل عند احتكاكها بورق مقوى مغطى بالكبريت، لكنه لم يسجل براءة اختراعه لسبب غير معروف.
أما الفوسفور، فقد اكتُشف على يد الخيميائي «هينيغ براند»، الذي تمكن من استخراج الفوسفور النقي واختبار خصائصه المثيرة للاهتمام القابلة للاشتعال. لكن حتى تلك اللحظة لم يجد الفوسفور مكاناً له في أعواد الثقاب حتى جاء «تشارلز ساوريا» من فرنسا، في عام 1831، ودمج الفوسفور الأبيض أو الأصفر في أعواد الثقاب. وفي عام 1835 استبدل المجري «جانوس إيريني» كلورات البوتاسيوم بأكسيد الرصاص، وحصل على أعواد ثقاب تشتعل بهدوء وسلاسة.
وبعد مرور 10 أعوام، اكتشف الكيميائي النمساوي «أنطون فون شروتر» أن الفوسفور الأحمر غير سام، ولا يحترق تلقائياً. وبعد 10 أعوام أخرى، فصل «جي إي لندستروم» السويدي مكونات الاحتراق، وأبقاها على رأس عود الثقاب، وأرفقها بسطح القدح الخاص بها، وحصل على براءة اختراع لهذه الطريقة في عام 1855.
انتشر بعد ذلك استخدام أعواد الثقاب على نطاق واسع، بسبب احتفاظها بصفاتها ومقاومتها للظروف المناخية. وفي نهاية القرن التاسع عشر، اكتُشفت الآثار السامة للفوسفور الأبيض على العمال الذين يعملون في مصانعه، وهي حالة تسمم تُعرف باسم «الفك الفوسفوري». بعد ذلك، استطاع الكيميائي الفرنسي «جورج ليموين» في عام 1864، إعداد مركب كبريتيد الفوسفور، وهو أقل سمية بكثير. لكن في غضون بضع سنوات، تم حظر الفوسفور الأبيض في كل مكان حول العالم تقريباً.
لأعواد الثقاب نوع غير آمن
إن ما ذُكر أعلاه هو عن أعواد الثقاب الموجودة في كل منزل، والتي يمكن استخدامها بأمان. لكن يجب التنويه لوجود نوع آخر غير آمن، يختلف قليلاً عن النوع الآمن.
في هذا النوع توجد جميع مكونات الاحتراق في رأس عود الثقاب، إذ يحتوي الرأس على الكبريت وكلورات البوتاسيوم، ويضاف إليها الفوسفور الأحمر. وبوجود الفوسفور الأحمر في رأس العود، يكفي تمرير الرأس على أي سطح للحصول على الاحتكاك وبالتالي يشتعل العود.