بدا لقاح كورونا لفترةٍ وجيزة في هذا الصيف أنه قد حقق المعجزة التي طال انتظارها ومنحنا المناعة الكاملة ضد كوفيد-19. لم يقتصر عمل اللقاح على منع الناس من الوفاة بسبب الفيروس، بل حوّل الجسم إلى حصنٍ منيع مغلق أمامه. لقد قالت «روشيل ويلزنكي»، مديرة مركز السيطرة على الأمراض، لراشيل مادو في برنامجها في مارس/آذار: «تشير بيانات مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها إلى أن الأشخاص الذين تلقوا التطعيم لا يحملون الفيروس». ثم تغيرت المعطيات وأصبح السؤال «هل يمكن للملقَحين الذين يمرضون بسبب فيروس كورونا نقل العدوى مثل غير الملقحين؟».
هل يمكن للملقَحين نقل العدوى إن أُصيبوا بكوفيد-19 مثل غير الملقحين؟
ربما أربك هذا الأمر الكثيرين. يقول الباحثون أن المشكلة تكمن في سقف التوقعات العالي الذي كان منتظراً أن تحققه التطعيمات في جولة التطعيم الأولى، وميلنا المستمر إلى التقليل من مدى عدوى كوفيد-19.
في فبراير/شباط الماضي، أعلن مركز السيطرة على الأمراض أن الأشخاص الذين تلقوا التطعيم بالكامل لن يحتاجوا إلى الحجر الصحي بعد التعرض. تبع ذلك الإعلان بعد بضعة أشهر عن أنباء تفيد بأن الملقحين بالكامل لن يحتاجوا أيضاً إلى ارتداء أقنعة في أي مكان تقريباً. لذلك كانت التوقعات مرتفعةً جداً، وأوحت بأن اللقاحات ستحمي الناس ليس فقط من دخول المستشفى، بل ومن التقاط الفيروس في المقام الأول.
في الواقع، لا يمكن لأي لقاحٍ أن يمنح المناعة الكاملة، حتى لقاحات الجدري والحصبة، لا تمنح مناعة كاملة ضد المرض. وبالرغم من أن جرعتين من لقاح الرنا المرسال تحمي الغالبية العظمى من الناس من الإصابة بأكثر نتائج كوفيد-19 خطورة، إلا أنه بات واضحاً، خصوصاً مع انتشار متغير دلتا، أن هذه اللقاحات لا تمنع العدوى دائماً من إصابة الجهاز التنفسي العلوي.
جاء أول دليل رسمي على هذه الحقيقة من تفشي المرض الذي أصاب 133 شخصاً في بروفينستاون، ماساتشوستس، في مهرجان في أوائل يوليو/تموز الماضي. كان العديد من الزوار قد تلقوا ى التطعيم الكامل، وبدأ مركز السيطرة على الأمراض في التحقيق في كيفية انتشار هذه الحالات الاختراقية للمرض.
في الأسبوع الأخير من شهر يوليو/تموز، أعلن المحققون أن الحالات الملقحة وغير الملقحة، على الأقل بين الأشخاص في بروفينستاون، لديها «قيمٌ حدية للدورة» لا يمكن تمييزها إحصائياً.
اقرأ أيضاً: 6 أسئلة تجيبك عن الإصابة بكوفيد-19 بعد تلقّي اللقاح
ما الذي يخبرنا به اختبار تفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR) عن الحمل الفيروسي للشخص؟
يمكن أن تكون قيم عتبة الدورة، أو قيم «Ct» اختصاراً، عند تقديرها بشكلٍ صحيح، بمثابة تقديرٍ تقريبي لكمية المادة الفيروسية في العينة. إنها مقياسٌ لقوة اختبار تفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR): في هذا التفاعل، تُنقع العينة بشكل متكرر في الماء الساخن والبارد في محاولةٍ تخليق المزيد من أي مادة فيروسية في العينة لتسهيل اكتشافها. العينة التي لا تتشكل فيها نسخٌ من الفيروس تكون سلبية، بينما العينة التي تحتوي منذ البداية على الكثير من المواد الفيروسية ستحتاج إلى دورات أقل، أي ستكون قيمة (Ct) لها منخفضة. لذلك اقترحت دراسة بروفينستاون أن الحالات الاختراقية- عند حدوثها- كانت تحتوي على نفس الكمية من المادة الفيروسية في أجسامها مثل الحالات غير الملقحة.
كانت ذلك مفاجئاً. يقوم جسم الملقّح ببناء الأجسام المضادة والخلايا التائية وغيرها من الآليات الجزيئية الأخرى التي يجب أن تبطئ الفيروس حتى لو أصيب به المرء بشكلٍ مباشر. وإلى حد ما، أثبتت دراسات أخرى أيضاً آلية العمل هذه. فقد وجدت دراسة أجريت في 31 يوليو/تموز في سنغافورة أن الأشخاص الذين تلقوا التطعيم أزالوا العدوى من أجسامهم بشكل أسرع بكثير من الأشخاص غير المطعمين، وفي كثير من الحالات، كانوا قادرين على تقليل الحمل الفيروسي في غضون أيام قليلة من الإصابة.
دفع اكتشاف بروفينستاون، الذي نشرته صحيفة «واشنطن بوست» في البداية، مركز السيطرة على الأمراض إلى التراجع عن توصياته المُحدثة بشأن ارتداء الكمامات. وقد حذر المركز من إساءة تفسير الدراسة أيضاً، حيث قالت والينسكي في 30 يوليو/تموز: «تشير الأحمال الفيروسية العالية إلى زيادة خطر انتقال العدوى وتثير القلق من أنه يمكن للأشخاص الذين تلقوا التطعيم والذين أُصيبوا بمتغير دلتا أن ينقلوا الفيروس للآخرين».
كانت وسائل الإعلام الوطنية أقل حذراً في هذا الشأن. فقد أشارت كل من قناة «سي إن إن» وصحيفة «نيويورك تايمز» إلى أنه لا يمكن للمطعمين نقل فيروس كورونا وحسب، بل لديهم ميلٌ لنشره مثلما ينشره غير المُلقحون، كما قالت قناة «سي إن إن».
يتمثل جزءٌ من المشكلة في أن متغير دلتا يبدو أكثر قدرةًُ على التسبب بالعدوى الاختراقية نظراً لقدرته على التكاثر والانتشار بسرعةٍ كبيرة في الجسم. لكن المشكلة الأساسية كانت في رفع سقف التوقعات عالياً بشأن ما ستفعله اللقاحات، وفقاً لما قالته سوزان بتلر، أخصائية علم الأمراض السريرية في كلية الطب بجامعة جنوب كاليفورنيا: «أعتقد أن جزءاً من المشكلة يكمن في توصية مركز السيطرة على الأمراض التي صدرت في مايو/أيار والتي جاء فيها: إذا تلقيت التطعيم، يمكنك خلع الكمامة. بالنسبة لي، لم أفعل ذلك أبداً. عندما اعتقد الناس في شهر يونيو/حزيران بأن الجائحة قد انتهت بطريقةٍ أو بأخرى، كنت أنظر إلى قيم الدورة (Ct) التي بين يدي؛ يا رفاق، هذا لم ينتهِ».
ومع ذلك، فإن فكرة أن الشخص المُطعم يمكنه نشر الفيروس مثل غير المطعمين فكرةٌ مبالغ بها.
كتب طبيب الطوارئ، «كريج سبنسر» في صحيفة «ذي أتلانتيك» في أوائل أكتوبر: «بالرغم من المخاوف المتعلقة بتراجع المناعة، إلا أن التطعيمات هي أفضل حمايةٍ متوفرة ضد العدوى. وإذا لم يكن شخصٌ ما مصاباً، فلن يتمكن من نشر الفيروس».
في الوقت الحالي، يصعب الحصول على بيانات حول فعالية اللقاحات ضد عدوى كوفيد-19 بدون أعراض. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن مركز السيطرة على الأمراض قد توقف عن تتبع الحالات الاختراقية الطفيفة- معظم البيانات واسعة النطاق حول تكرار مثل هذه الحالات تأتي من الخارج- مما جعل من الصعب تقييم الحاجة إلى لقاحاتٍ معززة. وتشير التقديرات إلى أن فعالية التطعيم تتراوح بين 50 و 90% في منع دخول العدوى إلى الجسم في المقام الأول. لكن البيانات المتعلقة بما يحدث بعد إصابة الشخص الملقح بالعدوى ليست واضحة تماماً وقليلة جداً.
تقول بتلر: «بعد حادثة بروفينستاون، كان هناك شيءٌ غريب. كان لدى الأشخاص المطعمين نفس قيمة (Ct). كان ذلك، مدعاةً للقلق من الناحية النظرية، لذلك كان التراجع عن التوصيات منطقياً بالتأكيد». ظهرت دراسات أخرى تؤكد هذه النتيجة، ووجدت أن الأشخاص الذين تلقوا التطعيم يمكن أن يكون لديهم قيم (Ct) مماثلة لأولئك الذين لم يتلقوا التطعيم.
المشكلة هي أن قيم (Ct) لا تُقرأ على أنها مؤشر لمدى إمكانية العدوى. فهي ليست مقياساً لكمية الفيروس الحي في العينة، بل هي مقياسٌ لكمية المادة الجينية للفيروس، لذلك قد تكون قيمتها العالية مؤشراً على وجود بقايا الفيروس بعد أن قام الجهاز المناعي بالقضاء عليه.
وتضيف بتلر: «تعتمد قيمة Ct على عوامل كثيرة. مثل مدى جودة العينة المأخوذة. بمعنىً آخر، قد لا تلتصق كمية كافية من الفيروس بطرف أداة أخذ العينة من الأنف إذا لم تؤخذ بعناية، حتى لو كان الشخص مُعدياً. ولا تعطي اختبارات تفاعل (PCR) التي تُجرى باستخدام مواد مختلفة نتائج Ct قابلة للمقارنة. لذا فإن اكتشاف قيم Ct مماثلة في الحالات الاختراقية يعد مؤشراً على أن هذه الحالات يمكن أن تكون معدية، ولكنها ليست مقياساً جيداً لمدى قدرتها على نقل العدوى».
اقرأ أيضاً: ما زلت متردداً بشأن لقاحات كوفيد-19؟ اقرأ هذا إذاً
هل يمكن اختبار قدرة الشخص على نقل المرض؟
لتحديد مدى إمكانية نقل العدوى، يجب تحديد كمية الفيروس الحي الموجودة في العينة، حيث يمكن للمختبر قياسها عن طريق زراعة الجسيمات في طبق بتري. ولكن لا يوجد شيء من قبيل اختبار اسمه «قابلية نقل عدوى كوفيد-19» كما تشير بتلر. في بعض الحالات، يمكن تنمية الفيروسات الحية في العينة في المختبر، لكن ذلك لا يعني أن الشخص معدٍ. في حالات أخرى، قد يكون الشخص معدياً، ولكن لا تنجح تنمية الفيروس مخبرياً.
ومع ذلك، وجدت إحدى الدراسات التي نُشرت في أواخر الشهر الماضي أن الحالات الاختراقية تنتج عدداً أقل بكثير من الفيروسات الحية في اللعاب والأنف، مما يشير إلى أنها ليست معدية.
في الواقع، من الصعب معرفة ما إذا كان الشخص معدياً أم لا بسبب البنية التحتية للصحة العامة المجزأة. فبدون تتبع المخالطين على نطاقٍ واسع، يكاد يكون من المستحيل معرفة من ينشر الفيروس.
كانت الدراسة الطويلة الأمد التي أجرتها جامعة تولين، والتي نُشرت هذا الخريف، إحدى الدراسات القليلة التي تناولت الانتشار المجتمعي وقيم Ct. وضعت جامعة تولين نظاماً مكثفاً لمراقبة انتشار عدوى كوفيد-19 يسمح لها بتشخيص الحالات بسرعة لدى الطلاب الجامعيين عن طريق اختبار PCR، وتقدير القدرة على نقل العدوى باستخدام نظام تتبعٍ للمخالطين.
كان أحد أهداف الدراسة معرفة ما إذا كانت حالات كوفيد-19 التي تزيد قيمة Ct فيها عن عتبةٍ معينة يمكن السماح لها بالخروج من الحجر الصحي. وقد تبين أنه في حين أن الأشخاص الذين لديهم قيم Ct عالية يميلون بالفعل إلى نقل العدوى إلى مزيدٍ من الأشخاص بشكلٍ عام، كشف نظام تتبع المخالطين أنه حتى الأشخاص ذوي قيم Ct المنخفضة نسبياً لا يزالون قادرين على نقل العدوى بعد شفائهم.
اقرأ أيضاً: هل يجب الخضوع لاختبار كوفيد-19 بعد تلقّي اللقاح؟
يقول «شياو مينج يين»، أخصائي علم الأمراض الجزيئية في كلية تولين للطب والمؤلف الرئيسي للدراسة: «المشكلة ليست في أن الأشخاص ذوي قيم Ct المنخفضة هم معدون أكثر، بل في أن الأشخاص الذين لديهم قيم Ct مرتفعة قادرون على نقل العدوى أيضاً».
ورداً على سؤال حول مدى قدرة الحالات الاختراقية التي لديها قيم Ct منخفضة على نقل العدوى، قال يين: «هذا سؤال صعب. في الحقيقة، لا نعرف». لكنه يؤكد أن دراسة فريقه تظهر أن الفيروس عادة ما يكون أكثر عدوى مما تشير إليه القيم المختبرية.
إذا ركزت فقط على القيم المختبرية، فمن السهل أن تضيع الصورة الكبيرة. في الواقع، تعتمد مدى قدرة الشخص على نقل العدوى للآخرين على ما هو أكثر من كمية الفيروس الموجودة في أنفه. ربما كان أكبر ناشرٍ فائق للفيروس هو الشخص الذي يذهب إلى الحانة بدون كمامة، في حين أن شخصاً ما بقي في المنزل مع حمولة فيروسية هائلة لن ينقل الفيروس مطلقاً للآخرين.
وبالرغم من الارتباك الذي حصل هذا الصيف، أكدت مراكز السيطرة على الأمراض على توصياتها بشأن كيفية التخفيف من مخاطر الإصابة بالعدوى: ارتدِ كمامة في الأماكن المغلقة، خصوصاً إذا كان هناك ارتفاعٌ بالإصابة بمتغير دلتا في منطقتك، وإذا خالطت شخصاً إيجابي، عليك إجراء اختبارٍ بعد بضعة أيام وارتداء كمامةٍ حتى ذلك الوقت.
تقول بتلر: «لقد كنا مفرطين في التفاؤل في أن اللقاحات ستمنع العدوى نهائياً. أرجو ألا يُساء فهمي. التطعيم هو الأداة الأكثر أهمية التي نملكها لإنهاء هذا الأمر، لكنه لا يمكنه فعل ذلك بمفرده. نحن بحاجةٍ إلى أكثر من ذلك».