عندما تسمع مصطلح «شجرة التطور»، قد يذهب تفكيرك مباشرة إلى «تشارلز داروين» وإلى دراسة العلاقات التطورية المتشابكة بين مختلف الأنواع لملايين السنين.
اُستخدم مفهوم «شجرة التطور» لأول مرّة في كتاب «أصل الأنواع» لداروين، لكن يمكن تطبيق هذا المفهوم على أيّ شيءٍ يتطور، بما في ذلك الفيروسات. يمكّن للعلماء من خلال ذلك دراسة تطور فيروس كورونا لمعرفة المزيد عن كيفية عمل جيناته. كما يفيد أيضاً في الخروج باستنتاجات حول انتشار الفيروس في جميع أنحاء العالم، ويساعد في عملية تطوير وإيجاد اللقاح المناسب.
أنا متخصص في المعلوماتية الحيوية، وأدرس علاقة الأوبئة بتطوّر الفيروسات، وأنا من بين العديد من الباحثين الذين يدرسون تطوّر فيروس كورونا الآن، نظراً لأن دراسة تطوّره تساعد الباحثين ومسؤولي الصحة العامة على تتبع انتشار الفيروس بمرور الوقت. تشير أبحاثنا إلى أن فيروس كورونا يتحوّر ببطء أكثر من الأنفلونزا الموسمية، مما قد يسمح للعلماء بتطوير لقاح أكثر فعالية له.
كيف يتطوّر التسلسل الجيني لدى الفيروسات؟
تتطور الفيروسات عن طريق التحوّر، أي تحدث تغييرات في الشفرة الجينية لها بمرور الوقت. وتحدث بطريقة تُشبه طريقة تغيّر الكلمات المتناقلة همساً في لعبة «الهمسات الصينية»، حيث يتداول اللاعبون الكلمات فيما بينهم همساً، فيتغيّر معناها من شخصٍ لآخر وتصبح في النهاية مختلفة إلى حدٍ ما للمعنى الأصلي الذي كانت عليه في البداية.
يمكننا أن ننظر إلى المادة الوراثية على أنها تسلسل من الحروف، ومع مرور الوقت، يمكن أن يتغيّر هذا التسلسل. وفي هذا الصدد طوّر العلماء نماذج مختلفة من تطوّر السلالات الجينومية لمساعدتهم على دراسة كيفية حدوث الطفرات بمرور الوقت.
من الممكن أن يتغير تسلسل جينوم فيروس كورونا بشكلٍ يتشابه كثيراً مع ما يحدث في لعبة «الهمس الصينية» بمرور الوقت، حيث تحدث الطفرات بشكلٍ عشوائي، ويمكن أن تنتقل هذه الطفرات في فيروس معيّن إلى جميع النسخ الجديدة في الجيل التالي. ثم وبقدر ما يُتاح للعلماء تحليل كيفية حدوث هذه الطفرات، يمكنهم تحديد التاريخ التطوري الأكثر احتمالاً للفيروس باستخدام نماذج التطوّر الجيني.
كيف يمكننا تطبيق ذلك على فيروسات مثل فيروس كورونا؟
عملياً، إيجاد تسلسل الحمض النووي هو تحديد تسلسل النيوكليوتيدات (T, A, C, G) -الوحدات البنائية الكيميائية للجينات- لقطعةٍ من الحمض النووي (دنا). يستخدم تسلسل الحمض النووي إلى حدٍ كبير في دراسة الأمراض البشرية والموّرثات، لكّن دراسة التسلسل الجيني أصبح جزءاً روتينياً من تشخيص الأمراض الفيروسية في السنوات الأخيرة، وطالما أنّ عملية الكشف عنه تصبح أقل تكلفة أكثر فأكثر، سيصبح إجراء التسلسل الجيني الفيروسي مُتاحاً ومُستخدماً أكثر مع مرور الوقت.
الحمض الريبي النووي (رنا) هو جزيء مشابه للحمض النووي (دنا)، وهو في الأساس نُسخة مؤقتة من قطعة قصيرة من الحمض النووي (دنا). وعلى وجه الدقة، في علم الأحياء الجزيئية أو ما يسمى «العقيدة المركزية»؛ يتمّ نسخ أو ترجمة حمض الدنا إلى حمض الرنا. ونأتي هنا إلى فيروس كورونا الذي يُعتبر من فيروسات الرنا، مما يعني أن أياً من تسلسلات الحمض النووي لدينا لا يمكنها فك تشفير تسلسله الجيني مباشرةً. لكن العلماء يستطيعون يمكنهم عكس عملية استنساخ حمض الرنا للفيروس إلى الدنا المتمم له، أو ما يُسمّى «سي دنا»، حيث يمكن فك سلسلة الفيروس الجيني من خلاله بعد ذلك، وإجراء الدراسات والبحوث عليه.
بالتالي، عند دراسة مجموعة من تسلسلات الجينوم الفيروسي، يمكننا استخدام نماذج تطوّر التسلسل الجيني لدينا لاكتشاف تاريخ الفيروس، ويمكننا أيضاً الإجابة على أسئلة من قبيل: ما مدى سرعة حدوث الطفرات لدى الفيروس، أو أين تحدث الطفرات في جينوم الفيروس؟ يمكن لمعرفة الجينات التي تتغير بشكل متكرر أن تكون مفيدة هنا في تطوير وتصميم لقاح لمحاربة الفيروس.
كما يمكن أن يسمح تتبع كيفية تغيّر الفيروسات في موقع ما إلى الإجابة عن سؤال مثل: كم عدد حالات التفشي المنفصلة الموجودة في مجتمع معين؟ يمكن أن يساعد هذا النوع من المعلومات مسؤولي الصحة العامة في احتواء انتشار الفيروس.
بالنسبة لفيروس كورونا، كانت هناك مبادرات عالمية لتبادل الجينوم الفيروسي مع جميع العلماء. بالنظر إلى مجموعة من التسلسلات الجينية للفيروس مع تواريخ أخذ العينات، يمكن للعلماء استخلاص التاريخ التطوري للعينات في الوقت الفعلي، واستخدام المعلومات لاستنتاج تاريخ انتقاله.
إحدى هذه المبادرات هي «نكست ستراين»، وهي مشروع مفتوح المصدر يوفّر للمستخدمين تقارير فورية عن انتشار فيروس الأنفلونزا الموسمية، وفيروس إيبولا والعديد من الأمراض المعدية الأخرى. تقود هذه المبادرة مؤخراً عملية التتبع التطوري لفيروس كورونا من خلال توفير تحاليل في الوقت الفعلي، بالإضافة إلى تقرير الحالة الذي يمكن للعامّة الاطلاع عليه، بالإضافة لترجمته للعديد من اللغات بحيث يتمكّن أكبر عددٍ ممكن من العلماء عبر العالم الاستفادة منه.
مع تزايد كمية المعلومات المتاحة، يحتاج العلماء إلى أدواتٍ أسرع ليتمكنوا من تحليل الأرقام. يقوم مختبري في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، بالتعاون مع مُختبر «سيستم إنيرجي إفيشنسي» (اختصاراً «إس إي إي») بقيادة البروفيسور «تاجانا سيمونيتش روزينج» بإنشاء خوارزميات جديدة باستخدام أدوات برمجية، وأجهزة الحاسوب حتى تكون عملية التحاليل في الوقت الحقيقي لوباء فيروس كورونا أكثر جدوى.
ماذا علمنا عن فيروس كورونا حتّى الآن؟
استنادًا إلى البيانات الحالية، يبدو أن فيروس كورونا يتحوّر ببطءٍ أكثر من فيروسات الأنفلونزا الموسمية، وعلى وجه الدقّة، يبدو أن الفيروس يتحوّر بمعدّل أقل من 25 طفرة سنوياً مقارنة بالأنفلونزا الموسمية التي يبلغ معدّل حدوث طفرات فيها 50 طفرة سنوياً تقريباً.
وبالنظر إلى أن حجم جينوم فيروس كورونا يبلغ ضعف حجم جينوم الأنفلونزا الموسمية تقريباً، فيبدو أن الأنفلونزا الموسمية تتحوّر بمعدّل أسرع بأربع مرات من تحوّر فيروس كورونا. حقيقة أنّ فيروس الأنفلونزا الموسمية يتحوّر بسرعةٍ كبيرة، هي السبب في قلّة فعالية اللقاحات المُخصصة له. لذا فإن معدل الطفرة الأبطأ بشكل كبير لدى فيروس كورونا يمنحنا الأمل في تطوير محتمل للقاحات طويلة الأمد، وأكثر فعالية ضد الفيروس.