يبذل العلماء والمختصون في المجال الطبي والحكومات في جميع أنحاء العالم قصارى جهدهم؛ لمعرفة كيفية انتشار المرض التنفسي الجديد (فيروس كورونا الجديد) الذي اجتاح مقاطعة هوبي في ووهان الصينية، وإلى أي مدى قد تسوء الحالة بالنسبة إلى بقية أنحاء العالم. نوضّح هنا ما يمكن أن يقدّمه علم الأوبئة ضمن هذه الجهود المبذولة، والذي يُعتبر العلم الذي يدرس كيفية انتقال العدوى بين السكّان، وكيفية السيطرة عليها.
يدمج علم الأوبئة كلّ شيءٍ من الجغرافيا إلى الرياضيات المعقّدة لمعرفة كيفية انتشار مرض ما. فيما يلي بعض المفاهيم الأساسية التي يقدمّها علم الأوبئة، والتي يمكن أن تساعدنا على تجنّب حالة الذعر، وتجاهل المعلومات الخاطئة، والحدّ من مظاهر الكراهية للأجانب التي أثارت جدلاً كبيراً في الآونة الأخيرة.
انتشار المرض
ضمن علم الأوبئة، يستخدم العلماء مؤّشر «عدد التكاثر الأساسي»، أو «نسبة التكاثر الأساسية» لقياس كيفية انتشار المرض بين السكّان، ويُرمز له اختصاراً بـ «R0»، ويشير إلى عدد الحالات الجديدة -في المتوسط- التي تنتقل من إصابةٍ واحدة خلال فترة العدوى بين مجموعةٍ غير مصابة. وبالرغم من أن هذا المؤشر لا يخبرنا بمدى خطورة الوباء، إلا أنه يعطينا فكرة عن سرعة انتشار مرضٍ جديد، وبالتالي يساعدنا في توجيه استراتيجيات مكافحة الأوبئة التي تنفذّها الحكومات والمنظمات الصحية.
إذا كان R0 أقلّ من 1، فإن المرض يختفي عادةً حيث تكون فرصة نقل المرض من شخصٍ مصاب لآخر سليم منخفضة. أما لو كانت قيمة R0 أكبر من 1، فذلك يعني أن كلّ مصابٍ يمكن أن ينقل العدوى إلى شخصٍ آخر على الأقل في المتوسّط، والذي بدوره يمكن أن ينقل المرض لشخصٍ آخر، وهكذا ينتشر المرض بين السكّان. على سبيل المثال، تبلغ قيمة R0 بالنسبة لمرض الأنفلونزا الموسمية 1.2، حيث يشير هذا الرقم إلى أنّ كلّ 5 أشخاصٍ مصابين يمكنهم نقل المرض إلى 6 أشخاصٍ جدد في المتوسط، والذين يقومون بدورهم بنقل المرض إلى آخرين.
أمّا مرض الحصبة مثلاً، فيسجّل أرقام R0 قياسية، حيث يبلغ بين 12 و 18، مما يعني أن كل شخصٍ مصاب يمكن أن ينقل العدوى إلى 12 إلى 18 شخصاً في مجموعةٍ غير محصّنة ضد هذا المرض. ففي الحقبة التي سبقت اكتشاف اللقاح والتطعيم على نطاقٍ واسع، كان من الممكن أن تصيب الحصبة بسهولة أطفال مدرسةٍ بأكملها. لا تنسى تلقيح أطفالك.
تعتمد «مناعة القطيع» أو «مناعة الجماعة» أيضاً على مؤشر R0. فكلّما زاد عدد الأشخاص الذين يمتلكون المناعة ضد أي مرض ضمن السكّان، كان عدد المصابين أقل. أي إذا وصل مؤشر مناعة القطيع إلى مستوى عالٍ من خلال التطعيم أو بشكلٍ طبيعي، فسيختفي المرض. في الواقع، من السهّل رفع مناعة القطيع عند انخفاض قيمة R0، لأنّ المرض في هذه الحالة لا ينتشر بسهولة.
لكن من المهم أن نتذكر أن R0 هو تقدير إحصائي لكيفية انتشار المرض في مجموعة سكانية معينة، إذا ما ترك دون مراقبة. لدى كل من السارس وفيروس ميرس، مثلاً، قيم أعلى من R0 (بين 2 و 5) من قيم الأنفلونزا الموسمية، ولكن لم تنتشر على نطاقٍ واسع بما يكفي لتصبح أوبئة عالمية. من ناحيةٍ أخرى، فإن الأنفلونزا تنتشر على نطاقٍ واسعٍ دائماً على الرغم من أنها تمتلك R0 صغيرٍ نسبياً؛ حيث تقدر مراكز مكافحة الأمراض في الولايات المتحدة، أن ما بين 3 و 11% من سكان الولايات المتحدة يُصابون بالأنفلونزا كل عام.
وذلك يعيدنا إلى مرض فيروس كورونا (كوفيد-19). فبالنظر إلى أن هذا المرض ما يزال حديث الظهور وجديدٌ على عالم الطب، فإنه ما يزال الباحثون يقومون بجدولة البيانات المطلوبة لحساب قيمة R0. لكن اعتباراً من 19 فبراير/ شباط الحالي، ذهبت التقديرات إلى أنّ قيمة R0 للمرض الجديد تبلغ أكبر من 1.4 ولكنّها أقلّ من 4، أي أنّه في نطاق فيروسات كورونا الأخرى مثل السارس.( يمكن مراجعة المقالة التي نشرها موقع «لايف هاكر» لمعرفة المزيد حول القضايا المتعلّقة بمرض كوفيد-19 والـ R0 له).
معدل إماتة الحالات
يمثّل رقم «معدّل إماتة الحالة»، الذي يُرمز له اختصاراً بـ «CFR»، النسبة المئوية لعدد الأشخاص المصابين الذين يمكن أن يموتوا بسبب الإصابة. على سبيل المثال، تبلغ النسبة بالنسبة لأحد أخطر الأمراض المميتة، وهو داء الكلب، 99%، طبعاً في حال لم يُعالج. بينما أقلّ النسب تسجلّها الأنفلونزا الموسمية، فبالرغم من أنّ قيمة R0 له مرتفعة نسبياً، إلا أنها ليست قاتلة (هناك استثناءات ممن يعانون من ضعف المناعة عموماً). يبقى معدّل CFR منخفضاً بالنسبة للأنفلونزا، لكّن عدداً كبيراً من الأميركيين يصابون به كلّ عام، إلى درجة أنّ تقديرات مراكز السيطرة على الأمراض أشارت إلى احتمال وفاة 30 ألف أميركي بسببه في الفترة بين أكتوبر/ تشرين الأول 2019 وفبراير/ شباط 2020.
وبالمثل، فإن الحصبة معدية للغاية، لكنها نادراً ما تكون قاتلة (على الرغم من أن تأثيرها المقلق على الجهاز المناعي يمكن أن يجعل الضحايا معرّضين لأمراضٍ أخرى تهدد الحياة). بينما كان الجدري أقل انتقالاً بين البشر مع معدّل R0 بلغ بين 5 - 7، لكن قيمة CFR له التي تبلغ 30% جعلت منه مرضاً كارثياً. الحصبة، رغم أنّها أقل خطورةً، لديها معدل عدوىً مرتفع، لدرجة أنّنا نحتاج لتطعيم عددٍ كبيرٍ من السكان من أجل الوصول إلى «مناعة قطيع» مناسبة؛ بينما حققت لقاحات الجدري مناعة القطيع بمعدلاتٍ أقل بكثير، واختفى المرض بالكامل بحلول عام 1980.
من الصعب عملياً تقدير قيمة CFR لمرضٍ ناشئٍ مثل مرض فيروس كورونا بدقّة، لأن جميع الأرقام اللازمة لحسابه صغيرة نسبياً ببساطة. تشير التقديرات الأولية أجريت في 8 فبراير/ شباط هذا العام، إلى أنّ قيمة CFR للمرض المستجد تبلغ 1.4%، أي أن 14 شخصاً سيموتون من بين 1000 شخصٍ مصابٍ بالفيروس، لكّن هذه الحسابات تمّت اعتماداً على الإصابات خارج الصين فقط، بالنظر إلى أنّ البيانات التي تصدرها الحكومة الصينية «غير موثوقة». من المحتمل أن تتغير هذه الأرقام خلال الأسابيع والأشهر القادمة، لكّن يبدو أن معدل «إماتة الحالة» لفيروس كورونا أقل من معدل السارس وميرس. ومع ذلك، فإن تركز الإصابات الشديد في منطقة واحدة من الصين؛ يرهق البينة التحتية للرعاية الصحية إلى حدٍ كبير، حيث يُعدّ ذلك مصدر قلقٍ بالنسبة في حالة أي تفشّ وبائي كبير.
ما مدى دقّة الأرقام المرتبطة بفيروس كورونا؟
يعتمد علم الأوبئة على الاحتمالات والأرقام التقريبية. على سبيل المثال، يُشتّق رقم «معدّل إماتة الحالة - CFR» وأرقام «عدد التكاثر الأساسي - R0» من الأرقام الحقيقية عبر نمذجة المرض رياضياً. ونظراً لأن انتشار العدوى ترتبط بالعديد من العوامل المعقّدة، مثل الطقس والسفر أثناء العطلات وغيرها، فإنّ حدوث جائحتان من الفيروس نفسه؛ قد ينتج عنهما أرقام مختلفة حسب علم الأوبئة. لذلك يُعطى لقيمة R0 مجالٌ يتراوح ضمنه، ولذلك نقول أن الأرقام ليست دقيقةً تماماً؛ ليس لأن نماذجنا الرياضية سيئة، بل لأن الواقع نفسه الذي تنتشر فيه الأوبئة فوضوي.
وفي الوقت نفسه، يزيد علم الأوبئة من فهمنا لآليات انتشار المرض والحقائق المرتبطة به، ويوجّه طريقة تعاملنا معه. فهو يقوم بنمذجة آلية انتقال المرض من دولةٍ لأخرى في عصرنا المترابط الحديث، ويظهرُ أنّ إجراءات الحجر الصحي داخل المدن، وإجراءات منع السفر لا يحدّان من انتقال العدوى كثيراً، بالمقابل، تقوم هذه الاجراءات بتعطيل حياة الأشخاص غير المصابين بشكلٍ خطير، وتؤدي لتدهور الاقتصاد أيضاً.
أخيراً، يتيح لنا علم الأوبئة مقارنة مرض فيروس كورونا بالأوبئة الأخرى لتقدير مدى سوء الوضع الحالي، ومدى انتشار المرض إذا لم تتعامل معه الحكومات بشكلٍ مناسب. قد لا نعرف كل شيء عن مرض فيروس كورونا (كوفيد-19) حتى الآن، لكن علم الأوبئة يساعدنا على فهم ما يلزمنا للتغلّب عليه.