إحدى أسباب الانتشار السريع لمرض كوفيد-19 في العالم؛ هو أن المصابين يشعرون بأنهم على ما يرام خلال الأيام الأولى من العدوى. وبدلاً من البقاء في المنزل، قد يخرج هؤلاء ليتجولوا في أماكن مختلفة، حيث ينشرون الفيروس دون علمهم. ولكن بالإضافة إلى هؤلاء، فإن انتشار هذه الجائحة يعود أيضاً إلى مجموعة مجهولة من الناس: وهم حاملي الفيروس الذين لا تظهر عليهم الأعراض.
وفقًا لتقديرات مختلفة، فإن ما بين 20 و45%، وربما أكثر من الأشخاص حاملي الفيروس -وفقاً لدراسة حديثة من مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها- فإنهم يتعافون من الإصابة بالعدوى دون أن يدركوا أنهم أصيبوا بها. فلا تظهر عليهم الحمى أو القشعريرة، ولا يفقدون حاسة الشم أو التذوق، ولم يعانوا من صعوبات في التنفس. لا يشعرون بأي شيء.
وفقاً لعالم الأوبئة «نيل فيرجوسن» من ذا الكلية الملكية في لندن؛ فإن حالات انعدام الأعراض لا تقتصر على مرضى كوفيد-19، إذ أنها تظهر عند المصابين بالأنفلونزا، وعلى الأرجح أنها ظهرت في جائحة الأنفلونزا عام 1918. لكن العلماء غير متأكدين من سبب هذه الظاهرة في حالة مرض كوفيد-19. فكما يقول «دونالد ثيا»، خبير في الأمراض المعدية في جامعة بوسطن للصحة العامة: «لا زالت هذه الظاهرة لغزاً كبيراً حتى الآن».
النظرية المعتمدة حالياً تنص على أن الجهاز المناعي عند المرضى الذين لا تظهر عليهم الأعراض يحارب الفيروس بكفاءة عالية؛ لدرجة أنهم لا يشعروا بالمرض. لكن بعض العلماء يعتقدون أن الاستجابة المناعية العنيفة المتمثلة في إنتاج الأجسام المضادة والجزيئات الأخرى المحاربة للفيروس، ليست هي السبب الوحيد.
يكتشف هؤلاء العلماء تدريجياً أن الجسم البشري لا يحارب الفيروسات ومسببات الأمراض دائماً. إذ قد يكون قادراً على احتواء العدوى لدرجة أن الأعراض أحياناً تكون معدومة. هذه الظاهرة، التي تسمى «تحمُّل الأمراض»، منتشرة بين النباتات، ولكنها وُثِقت مرة واحدة فقط في مملكة الحيوان خلال الـ 15 سنة المنصرمة.
حالة تحمّل الأمراض هي قدرة الفرد على الاستمتاع بصحة جيدة حتى لو كان يحمل في جسمده كمية من العوامل الممرضة التي تسبب المرض لشخص آخر. تعود هذه الظاهرة لعوامل عدة منها الاستعدادات الجينية، أو أنماط الحياة، أو أنماط سلوكية محددة. تأخذ هذه الحالة عدة أشكال حيث تعتمد على نوع العدوى. على سبيل المثال، في حالة الكوليرا التي تسبب إسهالاً مائياً يؤدي إلى الجفاف بالتالي الموت السريع؛ فقد يلجأ الجسم لتطبيق آليات تهدف للمحافظة على توازن السوائل والمحاليل الأيونية فيه. خلال عدوات أخرى، قد يضبط الجسم معدلات الاستقلاب أو يفعّل نشاط الميكروبات المعوية. قد يقوم الجسم بأي تعديل داخلي ضروري للوقاية من تلف الأنسجة أو إصلاحه، أو لتخفيف ضرر الجراثيم.
يعتمد الباحثون الذين يدرسون هذه العمليات على تجارب لا يمكن تطبيقها على البشر. مع ذلك، فهم يعتقدون أن أي عدوى منعدمة الأعراض؛ هي دلائل على أن ظاهرة تحمّل الأمراض موجودة عند البشر أيضاً.
لا يشعر حوالي 90% من المصابين ببكتيريا السل بأنهم مرضى. وينطبق الشيء نفسه على عددٍ كبير من الناس حول العالم، حيث يحملون الديدان الطفيلية في أمعائهم الدقيقة. يقول «إيرا كينج»، أستاذ علم المناعة في جامعة «ذا مكجيل»: «على الرغم من أن هذه الديدان هي أحياء كبيرة الحجم قادرة على الانتقال عبر أنسجة الجسم وتسبيب التلف، لكن العديد من الأشخاص لا يظهرون أي أعراض ناتجة عنها. هم لا يعلمون حتى أنهم يحملوها. وهنا يصبح السؤال: ما الذي يفعله الجسم لتحمّل هذه العدوات العدائية؟».
بينما لاحظ العلماء العمليات الفيزيولوجية التي تقلل من تلف الأنسجة أثناء العدوات عند الحيوانات لعقود، لكنهم بدأوا مؤخراً فقط في التفكير بهذه العمليات على ضوء ظاهرة تحمّل الأمراض. على سبيل المثال، حدد كينج وزملائه نوعاً معيناً من الخلايا المناعية عند الفئران قادرة على زيادة مقاومة الأوعية الدموية خلال مرحلة الإصابة بالديدان الطفيلية، مما يؤدي إلى تقليل النزيف في الأمعاء الدقيقة، حتى بوجود نفس عدد الديدان.
يقول كينج: «ثبت ذلك في النباتات والبكتيريا، وأنواع من الثدييات، لماذا نعتقد أن البشر لم يطوّروا هذه الآليات لتحسين الصحة والحفاظ عليها في مواجهة العدوات؟».
في كلمة إحدى الأعداد الحديثة لدورية «فرونتيرز إن إيميونولوجي»، يصف كينج وزميله في جامعة مكجيل، «مازير ديفانجاهي»، آمالهم حول آفاق الدراسة في هذا المجال؛ فإن «التوصل إلى فهم أعمق لظاهرة تحمّل الأمراض سيصل بنا إلى عصر ذهبي جديد في الأبحاث والاكتشافات حول الأمراض المعدية».
يعتبر العلماء عادة أن الجراثيم هي أعدائنا، وهي مقاربة سببت تصنيع مضادات حيوية ولقاحات بالغة الأهمية. ولكن مؤخراً، بدأ الباحثون بإدراك أن الجسم البشري مستَعمر بواسطة تريليونات الميكروبات الضرورية للصحة المثالية، وأن العلاقة بين البشر والجراثيم معقدة أكثر.
تواجدت الفيروسات والبكتيريا الطفيلية منذ بداية الحياة، لهذا، فمن المنطقي أن تكون الحيوانات قد طوّرت سبلاً للتكيف معها ومحاربتها. إن محاربة العوامل الممرضة هي عملية فعّالة، ولكنها قد تسبب بعض النتائج العكسية. فمثلاً، تجد العوامل الممرضة طرقاً لتجنّب الجهاز المناعي. بالإضافة لذلك، فإن الإستجابة المناعية قد تكون مميتة إن خرجت عن السيطرة، ووجّهت قوتها الضاربة باتجاه أعضاء الجسم نفسه.
يقول «آندرو أوليف»، عالم مناعة في جامعة ولاية ميشيغان: «أعتقد أن حالة مرض كوفيد-19 ستكون مماثلة لحالة مرض السل، حيث يجب أن يحافظ الجسم على درجة محددة من الالتهاب تكفي للتعامل مع الفيروس دون أن تتلف الرئتين».
إحدى أهم آليات تحمّل الأمراض التي لاحظها العلماء، هي قدرة الجسم على الحفاظ على هذه الدرجة من الالتهاب. على سبيل المثال، تكبح الخلايا الغبارية-المناعية الموجودة في الرئتين الالتهاب عندما يخف خطر العامل الممرض.
التوصل إلى فهم أعمق لظاهرة تحمّل الأمراض سيصل بنا إلى عصرٍ ذهبي جديد في الأبحاث والاكتشافات حول الأمراض المعدية.
لا نزال نجهل الكثير عن سبب تنوع الاستجابات لمرض كوفيد-19، من الأشخاص الذين لا تظهر عليهم الأعراض، إلى أولئك الذين يظهرون أعراضاً خفيفة، ومن الذين يتعطلون لأسابيع، إلى هؤلاء الذين يعانون من فشل كامل في بعض الأعضاء. يقول «آندرو ريد»، خبير في الأمراض المعدية في جامعة ولاية بنسلفانيا، والذي ساعد في اكتشاف ظاهرة تحمّل الأمراض عند الحيوانات: «لا يزال الوقت مبكراً جداً لنفهم سبب ذلك».
يعتقد ريد أن ظاهرة تحمّل الأمراض قد تفسر جزئياً سبب ظهور أعراض طفيفة على بعض المرضى، أو عدم ظهروها أبداً. فوفقاً لريد، قد يعود ذلك لكونهم أكفأ في التخلص من المواد السامة الناجمة عن العدوات. ويضيف: «أو قد يعود ذلك لقدرة أجسادهم على تجديد الأنسجة الرئويّة بسرعة أكبر، أو شيء من هذا القبيل».
إن النظرة العلمية السائدة نحو الأشخاص الذين لا تظهر عليهم الأعراض هي أن أجهزتهم المناعية مضبوطة بدقة بشكلٍ خاص. هذا قد يفسر لماذا يكون الأطفال والبالغين صغار السن يمثلون أغلبية الأشخاص الذين لا تظهر عليهم الأعراض. السبب لأن الجهاز المناعي يضعف بشكلٍ طبيعي مع التقدم بالعمر. ومن الممكن أيضاً أن تكون جهاز المناعة لدى هؤلاء الذين لا تظهر عليهم الأعراض مهيئة بسبب عدوى فيروسية سابقة بنسخة أضعف من فيروس كورونا، مثل تلك التي تسبب نزلة البرد.
لا يتلقى الأشخاص الذين لا تظهر عليهم الأعراض الكثير من الاهتمام من قبل الباحثين الأطباء. يعود ذلك جزئياً إلى أن هؤلاء لا يزورون الأطباء، وبالتالي يصعُب تتبعهم. لكن «جانيل آيريس»، عالمة فيزيولوجيا وخبيرة في الأمراض المعدية في معهد «سالك» للدراسات البيولوجية، والتي كانت رائدة في أبحاث تحمل الأمراض؛ تدرس بدقة الفئران التي لا تمرض.
يتمحور بحثها حول ما يدعى باختبار «الجرة المميتة 50»، والذي ينطوي على منح مجموعة من الفئران كمية من العوامل الممرضة كافية لقتل نصف المجموعة. وبمقارنة الفئران التي ماتت بتلك التي بقيت حيّة؛ تحدد آيرس السمات المميزة لفيزيولوجيا الفئران التي تمكنهم من النجاة من العدوى.
أجرت آيرس هذه التجربة عشرات المرات باستخدام أنواع مختلفة من العوامل الممرضة. تهدف هذه التجربة لكشف كيفية تفعيل الاستجابات المناعية عند الحيوانات.
أبرز ما ميّز هذه التجارب -وهو ما فاجأ آيريس أولاً- هو أن نصف الفئران التي نجت من الجرعة المميتة كانت مفعمة بالنشاط. إذ لم تكن هذه الفئران متأثرة أبداً بعد حقنها بنفس الكمية من العوامل الممرضة التي سببت موت الفئران الأخرى. تقول آيرس: «توقعت في البداية … أن تُبدي كل الفئران أعراضاً مرضية، وأن يموت النصف ويعيش النصف الآخر، ولكن هذا لم يحدث. إذ وجدت أن نصفهم أبدى أعراضاً مرضية ومات، والنصف الآخر لم يبدي أية أعراض ونجى».
ترى آيريس أن شيئاً ما مشابه يحصل خلال جائحة كوفيد-19. إذ كما هو الحال مع الفئران في التجربة الأخيرة، فإن المصابين الذين لا تظهر عليهم الأعراض؛ يحملون كميات متقاربة من الفيروس لتلك التي يحملها المصابون الذين تظهر عليهم الأعراض. لكن ولسبب ما، فهم لا يبدون أية أعراض. بينت الدراسات أن رئات المصابين عديمي الأعراض تبدو وكأنها تالفة في صور الـ «سي تي» (التصوير الطبقي المحوري)، مع ذلك فهم لا يعانون من صعوبة في التنفس (على الرغم من أنه ليس واضحاً بعد فيما إذا سيبُدوا أعراض بعيدة المدى). بالإضافة لذلك، تقترح دراسة صغيرة حديثة أن الاستجابة المناعية لدى المصابين عديمي الأعراض؛ هي في الحقيقة أضعف من نظيرتها عند المصابين الذين تظهر عليهم الأعراض، مما يشير لوجود آليات تفعل فعلها ولا علاقة لها بمقاومة العدوى.
تسأل آيرس: «لماذا يبدو المصابين الذين لا تظهر عليهم الأعراض أصحّاء إذا كانوا يعانون من هذه العيوب في الاستجابة المناعية؟ يمكن أن يكون سبب ذلك هو أن آليّات تحمّل الأمراض لديهم مفعّلة. هؤلاء هم من ينبغي علينا دراستهم».
إن هدف البحث في ظاهرة تحمّل الأمراض هو كشف الآليات التي تُبقي الأشخاص المصابين بالعدوى أصحاء، ثم استخدامها لتطوير علاجات تفيد الجميع. يسأل ريد: «نحن نرغب بامتلاك نبتة يمكنها تحمل الجفاف، فلماذا لن نرغب بجعل الأشخاص مقاومين للفيروسات؟».
أثبتت تجربة أجريت في مختبر آيريس عام 2018 إمكانية إحراز هذا الهدف. فقد عرّض الباحثون مجموعة من الفئران لعدوى تسبب الإسهال، وذلك ضمن نظام «الجرعة المميتة 50». بعد ذلك، قارن الباحثون بين أنسجة الفئران الميتة والأخرى التي بقيت حية. اكتشفوا أن أجسام الفئران التي لم تظهر عليها الأعراض استخدمت مخزونها من الحديد لتوجيه الكميات الزائدة من الجلوكوز لتغذية البكتيريا الصحية في الأمعاء، وأن الجراثيم المضعّفة لم تشكل خطراً. حوّل الفريق هذا الاكتشاف إلى علاج. وفي التجارب التي تلت، أعطى الفريق مكملات الحديد للفئران، ونجت كلها من العدوى، حتى بعد مضاعفة جرعة العوامل الممرضة 1000 مرة.
عندما بدأت الجائحة، كانت آيريس تدرس الفئران المصابة بالالتهاب الرئوي ومتلازمة الضائقة التنفسية الحادة، والتي يمكن أن تسببها عدوات مختلفة. حدد مختبرها العلامات التي قد تحفز بدء عمليات خلوية تحارب العدوى في الفئران. الخطوة التالية هي مقارنة المصابين في المراحل المتقدمة من كوفيد-19 بالمصابين الذين لا تظهر عليهم الأعراض لمعرفة هل ظهرت لديهم نفس العلامات التي ظهرت عند الفئران أم لا.
تسأل جانيل آيريس: «لماذا يبدو المصابين الذين لا تظهر عليهم الأعراض أصحّاء إذا كانوا يعانون من هذه العيوب في الاستجابة المناعية؟ يمكن أن يكون سبب ذلك هو أن آليّات تحمّل الأمراض لديهم مفعّلة. هؤلاء هم من ينبغي علينا دراستهم».
إذا تم تطوير عقار بناءً على هذه التجارب، فإن آلية عمله ستكون مختلفة عن أي دواء آخر لأنه سيكون مخصصاً للرئتين، وليس لمرض ما، وسيكون قادراً على تخفيف الانزعاجات التنفسية بغض النظر عن نوع العامل الممرض الذي يسببها.
ولكن بقدر ما هو مثير هذا الطرح، إلا أن أغلب الخبراء يحذرون من أن دراسة تحمّل الأمراض هو مجال جديد، ومن المرجح أن تتأخر تطبيقاته العملية بضع سنوات. لا يتضمن العمل في هذا المجال قياس شدة الأعراض فحسب، بل قياس مستويات العوامل الممرضة في الجسم، وهذا يتطلب قتل الحيوانات والبحث في كل نسيج في أجسامها. يقول أوليف: «لا يمكننا القيام بتجارب بيولوجية مضبوطة على البشر».
بالإضافة لذلك، هناك العديد من العمليات الخلوية الأخرى التي تسبب تحمّل الأمراض. يقول كينج: «في كل مرة نكتشف فيها عملية جديدة، نكتشف أن هناك 10 أشياء أخرى لا نفهمها». ستختلف الأمور من مرض لآخر، وهذا -حسب كينج- قد يجعل الأمور صعبة».
مع ذلك، يتفق المزيد من الخبراء أن البحث في ظاهرة تحمّل الأمراض قد يكون له تبعات مهمة على علاج الأمراض المعدية في المستقبل. وفقاً لـ «جيريمي لوبان»، عالم الفيروسات في كلية الطب جامعة ماساتشوستس، فإن الأبحاث في علم الأحياء الدقيقة والأمراض المعدية «وجّهت اهتمامها جميعها إلى العوامل الممرضة كأجسام يجب التخلص منها بطريقة ما. وما يجب أن نفكر فيه فعلاً هو كيفية منع ظهور الأعراض المرضيّة».
*نُشر في مجلة «آندارك».