كيف غير اختراع الترانزستور العالم؟

لنحتفل بالترانزستور في عيده الماسي: الاختراع الذي غير العالم
تعرض موظفة عملاق الإلكترونيات، شركة شارب، إيما تاناكا الآلة الحاسبة "إي إل- بي إن 691"، كنموذج احتفالي للشركة بجانب "سي إس-10 أي"؛ أول آلة حاسبة مكتبية تقوم على الترانزستور/ديود عام 1964. يوشيكازو تسونو/ لوكالة فرانس برس عبر غيتي إميدجيز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لا نبالغ إذا قلنا إن العالم الحديث بدأ قبل 75 عاماً في حديقة مكتب متواضع في نيوجيرسي.

إنها مختبرات بيل، وكانت في ذروة قوتها. تأسست هذه المختبرات كذراع بحثية لإحدى شركات الهواتف، وأصبحت مكاناً يعج بالعلماء بحلول أربعينيات القرن الماضي. وكانت مكاتبها بمثابة مصنع تخرج منه الابتكارات الواحد تلو الآخر مثل التلسكوبات الراديوية والليزر والخلايا الشمسية ولغات برمجة متعددة. ولكن لم تكن لأي من هذه الاختراعات الأهمية التي يتمتع بها الترانزستور.

يجادل بعض مؤرخي التكنولوجيا بأن الترانزستور -والذي تم ابتكاره أول مرة في مختبرات بيل أواخر عام 1947- كان أهم اختراع في تاريخ البشرية. وبغض النظر عن صحة هذا الزعم، لا شك أن الترانزستور ساعد في إطلاق ثورة أدت إلى رقمنة العالم. لو لم يكن الترانزستور موجوداً، لما كانت لدينا الإلكترونيات التي نعرفها اليوم، ولكان كل شخص على وجه الأرض تقريباً يعيش بطريقة مختلفة تماماً عن حياتنا اليوم.

يقول العضو البارز في معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات في نيو جيرسي، مانوج ساكسينا: «لقد كان للترانزستورات تأثير كبير على دخل الأفراد في جميع الدول». ويقول نائب الرئيس في مختبرات بيل الحديثة، تود سايزر، في رسالة بالبريد الإلكتروني: «من الصعب تجاهل تأثيرها على حياة كل شخص تقريباً على هذا الكوكب».

ولكن ما هو الترانزستور؟

ببساطة، الترانزستور هو أداة يمكنها تشغيل أو إيقاف مرور التيار الكهربائي. يمكنك النظر إليه على أنه بوابة كهربائية تفتح وتغلق آلاف المرات كل ثانية. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يعزز الترانزستور مرور التيار من خلاله. في الواقع، تُعد هذه القدرات أساسية لبناء جميع الأجهزة الإلكترونية، بما فيها أجهزة الكمبيوتر.

في العقد الأول من عصر الترانزستور، تم الاعتراف بأهمية هذه القدرات عندما مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء عام 1956 للعلماء الثلاثة من مختبرات بيل الذين بنوا أول ترانزستور، وهم ويليام شوكلي وجون باردين ووالتر براتين. (أدان معظم المجتمع العلمي شوكلي لاحقاً بسبب دعمه علوم تحسين النسل وأفكاره العنصرية حول معدل الذكاء).

تصنع الترانزستورات عادةً من عناصر معينة تسمى أشباه الموصلات، والتي يمكن من خلالها التلاعب بالتيار الكهربائي. كان أول ترانزستور بحجم كف الإنسان ومصنوعاً من معدن الجرمانيوم، وبحلول منتصف الستينيات، كانت معظم الترانزستورات تُصنع من السيليكون -العنصر الذي يقع مباشرة فوق الجرمانيوم في جدول التصنيف الدوري- وكان المهندسون يستخدمون الترانزستورات في الدارات الإلكترونية المعقدة التي شكّلت لاحقاً أساس رقائق الكمبيوتر.

اقرأ أيضاً: خطر الأجسام القريبة: الأمم المتحدة تحتفل باليوم الدولي للكويكبات

لعقود من الزمان، اتبع تطوير الترانزستور قاعدة عامة تُعرف باسم قانون مور: يتضاعف عدد الترانزستورات التي يمكنك وضعها في دارة إلكترونية حديثة كل عامين تقريباً. لطالما كان قانون مور، وهو تعبير شائع في عالم رقائق الكمبيوتر، كليشيهات بين المهندسين، لكنه لا يزال مقبولاً ومعمولاً به حتى اليوم.

يبلغ حجم الترانزستورات الحديثة بضع نانومترات فقط، وربما يحتوي المعالج الذي يستخدمه الجهاز الذي تقرأ منه هذه السطور مليارات الترانزستورات على شريحة أصغر من ظفر الإنسان.

كيف كان العالم سيبدو دون الترانزستور؟

للإجابة عن هذا السؤال، علينا النظر إلى ما تم استبداله بالترانزستور، إذ لم يكن الترانزستور الأداة الوحيدة التي يمكنها تضخيم التيار.

قبل شيوع استخدام الترانزستور، كانت الإلكترونيات تعتمد على الأنابيب المفرغة؛ وهي مصابيح مفرغة من الهواء تُصنع عادة من الزجاج وتحتوي على صفائح مشحونة في داخلها. كان للأنابيب المفرغة بعض الخصائص التي تتفوق بها على الترانزستورات، ومنها القدرة على توليد المزيد من الطاقة. على الرغم من أن هذه التكنولوجيا قد عفا عليها الزمن، فإن بعض عشاق الموسيقى يقولون إن مشغلات الموسيقى القديمة القائمة على الأنابيب المفرغة أفضل من نظيرتها القائمة على الترانزستور.

لكن الأنابيب المفرغة ضخمة وحساسة جداً (تميل إلى الاحتراق بسرعة تماماً مثل المصابيح المتوهجة). علاوة على ذلك، فإنها تستغرق غالباً بعض الوقت “للإحماء”، ما يجعل الأدوات القائمة على الأنابيب المفرغة تبدو إلى حد ما أشبه بالمشعات القديمة.

بدا أن الترانزستور بديل مناسب. يقول الرئيس الحالي لجمعية الأجهزة الإلكترونية في معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات، رافي تودي: «كان مخترعو الترانزستور أنفسهم يعتقدون أنه يمكن استخدامه في بعض الأدوات الخاصة وربما في معدات الراديو العسكرية».

كانت أول أداة تستخدم الترانزستور يتم طرحها في الأسواق عام 1953 عبارة عن أداة مقوية للسمع. ثم ظهر راديو الترانزستور بعد فترة وجيزة، وقد أصبح شائعاً جداً في فترة الستينيات ورمزاً لها. كانت أجهزة الراديو المحمولة القائمة على الأنابيب المفرغة موجودة بالفعل، ولكن لو لم يتم ابتكار الترانزستور، لم تكن أجهزة الراديو المحمولة لتنتشر في كل مكان وتتيح للجميع القدرة على الاستماع إلى الموسيقى أثناء التنقل.

مارتن لوثر كينغ يستمع إلى راديو ترانزستور.
يستمع ناشط الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ إلى راديو ترانزستور خلال المسيرة الثالثة من سيلما إلى مونتغمري في ألاباما عام 1965. ويليام لوفليس/ ديلي إكسبريس/ أرشيف هولتون/ غيتي إميدجيز

ولكن حتى في السنوات الأولى من عصر الترانزستور، ارتفع عدد هذه الأجهزة بشكل كبير، إلى درجة أنها قد استُخدمت في الصواريخ الفضائية، حيث تم بناء الكمبيوتر الموجود على متن برنامج أبولو، والذي ساعد رواد الفضاء في توجيه سفينتهم من خلال مناورات في الفضاء، اعتماداً على الترانزستورات. وهكذا، وبدون الترانزستورات، كان على المهندسين تركيب جهاز أنبوب مفرغ ضخم على مركبة فضائية صغيرة المساحة، أو كان على رواد الفضاء الاعتماد على عملية تلقي الأوامر المرهقة جداً من الأرض.

بدأت الترانزستورات بالفعل في إحداث ثورة في أجهزة الكمبيوتر بحد ذاتها. كان الكمبيوتر الذي تم بناؤه قبل بداية عصر الترانزستور-يُدعى “إنياك” (ENIAC) وكان مصمماً لإجراء الأبحاث العسكرية لصالح الجيش الأميركي- يستخدم 18 ألف أنبوب مفرغ وتشغل مساحة قاعةٍ للرقص.

اقرأ أيضاً: اختتام أعمال المؤتمر العالمي الافتراضي للطب الوراثي في السعودية

ومع الوقت، أصبحت المساحة التي يحتاجها الكمبيوتر القائم على الأنابيب المفرغة أصغر. ومع ذلك، كانت تكلفة كمبيوتر “يونيفاك 1” (UNIVAC I) الذي تم بناؤه عام 1951 أكثر من مليون دولار (دون أخذ التضخم بعين الاعتبار)، وقد استخدمته فقط الشركات الكبرى أو الوكالات الحكومية التي تحتاج إلى تنظيم كمّ هائل من البيانات مثل مكتب الإحصاء. لم تبدأ أجهزة الكمبيوتر الشخصية التي تعمل بالترانزستور في دخول منازل الطبقة الوسطى حتى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

ربما لو لم تكن الترانزستورات موجودة، لكانت أجهزة الكمبيوتر شيئاً نستخدمه في العمل، وليس في المنزل. وبالطبع، انسَ الهواتف الذكية وأجهزة الملاحة المحمولة والشاشات المسطحة وحتى شاشات التوقيت الإلكترونية في محطات القطار والساعات الرقمية المتواضعة، فجميعها تحتاج إلى الترانزستورات للعمل، وبالتالي لن تكون موجودة.

يقول تودي: «يُعد الترانزستور أساس كل التقنيات الحديثة، بما في ذلك الاتصالات السلكية واللاسلكية واتصالات البيانات والطيران وأجهزة تسجيل الصوت والفيديو».

كيف ستبدو السنوات الـ 75 القادمة من تكنولوجيا الترانزستور؟

بالتأكيد، فإن عالم عام 2023 يختلف جذرياً عن عالم عام 1947، ويرجع الفضل الأكبر في ذلك إلى الترانزستورات. إذاً، ماذا يمكننا أن نتوقع من الترانزستورات بعد 75 عاماً من الآن، تحديداً في عالم 2097.

من الصعب الجزم بأي قدر من اليقين. تُصنع جميع الترانزستورات تقريباً اليوم من السيليكون، ومن هنا اكتسب وادي السيليكون اسمه الشهير. ولكن إلى متى سيستمر ذلك؟

أصبحت ترانزستورات السيليكون الآن صغيرة جداً لدرجة أن المهندسين ليسوا واثقين من أن بمقدورهم صنع ترانزستورات أصغر من ذلك، ما يشير إلى أن قانون مور ربما لن ينطبق بعد ذلك على الترانزستورات. ويريد الباحثون المهتمون بالطاقة صنع رقائق كمبيوتر تستخدم طاقة أقل، جزئياً على أمل تقليل البصمة الكربونية لمراكز البيانات والمرافق الكبيرة الأخرى.

اقرأ أيضاً: حضارات ذكية وكواكب صالحة للحياة: الإنجازات الفلكية في 2020

وفي هذا الصدد، يفكر عدد متزايد من الباحثين في بدائل للسيليكون. حيث يفكرون في صنع رقائق كمبيوتر تستفيد من التأثيرات الكمومية الغريبة وقطع المغناطيس الصغيرة، ويبحثون عن مواد بديلة مثل الجرمانيوم أو أشكال غريبة من الكربون. من غير المؤكد بعد أي من هذه المواد يمكن أن يحل يوماً ما مكان ترانزستور السيليكون؟

يقول ساكسينا: «لا توجد تكنولوجيا بحد ذاتها يمكن أن تلبي جميع الاحتياجات. وربما لم تُخترع التكنولوجيا التي ستؤدي الدور الحاسم في تسعينيات هذا القرن حتى الآن».