لا يختلف البشر البدائيون عن البشر المعاصرين، حيث يمتلك الإنسان الحديث كما القديم قعساً قطنياً، وهو تحدب قطني أسفل الظهر يقاوم المنحنى الحدبي ويساهم في الانحناء الجيبي للعمود الفقري البشري. تطور هذا الانحناء لموازنة واستقرار الجذع المستقيم على القدمين والحوض والأطراف السفلية أثناء الحركة والسكون.
تنتشر الآلام الظهرية كأحد أشيع الشكاوى الطبية التي تتردد على العيادات في أيامنا هذه، ولا تخطئ أمهاتنا عندما يلقين اللوم على الجلوس المطول أمام شاشات التلفاز ويدعين أنه السبب وراء شكوانا، حيث أتى علم الأنثروبولوجيا، وهو علم تطور الإنسان، بنتائج تثبت صحة هذه الاتهامات المحقة.
اقرأ ايضاً: نعم، البشر مستمرّون في التطور
محتوى الدراسة
وجد فريق من علماء الأنثروبولوجيا في جامعة نيويورك من خلال دراسة مقارنة أن العمود الفقري لإنسان نياندرتال، قد يفسر الآلام الظهرية التي يعاني منها البشر اليوم، حيث ركز التحليل على انحناءات العمود الفقري ومكوناته من الأنسجة الرخوة والعظام.
وضّح سكوت ويليامز، الأستاذ المشارك في قسم الأنثروبولوجيا بجامعة نيويورك وأحد مؤلفي الدراسة، أنه بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن، نشاهد زيادة في الانحناء في أسفل عظام الظهر لدى البشر اليوم، وقد يكون ذلك أحد الأسباب وراء المعدلات المتزايدة من آلام الظهر والآلام الأخرى في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية.
لا يختلف إنسان نياندرتال عن البشر المعاصرين في الانحناء القطني، فمن المحتمل أن إنسان نياندرتال امتلك ظهراً منحنياً كالبشر المعاصرين، وبالمقابل إن الاعتقاد أن لإنسان نياندرتال وضعية مختلفة عن وضع البشر المعاصرين صحيح ولكن إلى حد ما، حيث يشرح ويليامز قائلاً: "يُستمد جزء كبير من هذه النظرية من انحناء الفقرات القطنية السفلية لإنسان نياندرتال، حيث يقل انحناء العمود الفقري في المنطقة القطنية لديه عن انحناء العمود القطني للبشر المعاصرين الذين تمت دراستهم في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، ولكن الاختلاف بسيط وليس بجوهري".
اقرأ ايضاً: هكذا تطور البشر: إلى أي اتجاه سيأخذنا التطور في المستقبل؟
نتائج الدراسة
بتحليل البنية التشريحية والوظيفية للإنسان الحديث بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر بعد قيام الثورة الصناعية، وُجد أن حياة الإنسان اليومية تغيرت بشكل كبير، فعلى سبيل المثال، أصبحت الوظائف المكتبية متاحة على نطاق واسع، الأمر الذي يدفع إلى الجلوس المطول خلف المكتب، ما يؤثر على وضعية العمود الفقري، واقترنت هذه التغييرات مع انخفاض في الوظائف عالية النشاط مثل الزراعة التي انتشرت بشكل أعلى في حقبة إنسان النياندرتال.
توضيحاً للأمور وللقضاء على الشك، فحص ويليامز وزملاؤه الأعمدة الفقرية لكل من إنسان ما بعد الثورة الصناعية وإنسان ما قبل الثورة الصناعية وإنسان نياندرتال، ذكوراً وإناثاً من جميع أنحاء العالم، وتضمنت العينة أكثر من 300 عموداً فقريّاً بإجمالي أكثر من 1600 فقرة.
وكانت النتيجة أن العمود الفقري لإنسان ما بعد الثورة الصناعية أظهر انحناءً متزايداً في العمود الفقري القطني مقارنة بإنسان ما قبل الثورة الصناعية، كما وجدوا أن الأعمدة الفقرية لإنسان ما قبل الثورة الصناعية وإنسان نياندرتال لم تختلف بشكل جوهري، أي لم يتم رصد أي اختلافات تُذكر داخل عينات من نفس العصر.
اقرأ أيضاً: مفهوم التطور مختلف عمّا تعتقده
أكد العالِم ويليامز أن نمط الحياة في فترة ما قبل الثورة الصناعية واختلافه الجذري عن نمط الحياة في فترة ما بعد الثورة الصناعية هو العامل الأهم، كما أكد على محدودية مواد الدراسة لأنه كما نعلم تتكون بنية العمود الفقري من أنسجة رخوة أيضاً وليس العظام فقط، إلّا أن العظام هي كل ما يتم حفظه في حفريات الآثار، لذلك فإنها كل ما يسع العلماء دراسته.
بعبارةٍ أخرى، وُجد بفحص العمود الفقري للبشر الذين عاشوا في عصر ما بعد الثورة الصناعية أن البنية التشريحية للعمود الفقري لم تتغير بشكل تطوري، بل كان لتغيير ظروف العمل الدور المؤثر الأكبر في بنية العمود الفقري.
تقدم الفروق في تكوين العمود الفقري رؤى جديدة للظروف التي يواجهها الكثيرون منّا اليوم، حيث يعتبر انخفاض مستويات النشاط البدني والجلوس المطول بوضعيات غير سوية من بين تغييرات نمط الحياة التي رافقت الثورة الصناعية، والتي أدت بمرور الوقت إلى عدم كفاية دعم هياكل الأنسجة الرخوة لانحناء أسفل الظهر، وبالتالي اتخذت عظام أسفل الظهر لدينا انحناءً متزايداً مقارنةً بأسلافنا في عصر ما قبل الثورة الصناعية وإنسان نياندرتال، الأمر الذي يفسر تكرار حدوث آلام أسفل الظهر في عصرنا هذا.