في عام 1347، رست سفينة الموت على شواطئ صقلية، محملة بوباء الطاعون الذي قضى على ما لا يقل عن نصف سكان قارة أوروبا، ولُقب بالموت الأسود. انتشر الطاعون في كل القارات التي سكنها البشر تقريباً باستثناء أوقيانوسيا، لكن بعد مرور 6 قرون، ظهرت دراسة تشير إلى أنّ الطاعون ربما لم يكن مميتاً بقوة كما ظننا في السابق، فهو لم يؤثر على كل المناطق في أوروبا، وتشكك الدراسة التي بين أيدينا في فرضية قضاء الطاعون على نصف سكان القارة العجوز "أوروبا".
ما هو الطاعون؟
يُعد الطاعون واحداً من الأمراض المعدية ذائعة الصيت منذ زمن بعيد، وتذكر صفحات التاريخ أنه قضى على أكثر من 50 مليون إنسان في قارة أوروبا أثناء القرن الرابع عشر. وهو مرض تسببه بكتيريا "اليرسينية الطاعونية" (Yersinia pestis). وعادةً ما تعيش هذه البكتيريا في أجسام الثدييات الصغيرة مثل القوارض أو الحشرات كالبراغيث، وتنتقل بين الحيوانات. أما عن انتقالها إلى الإنسان، فقد يحصل ذلك بعدة طرق، منها:
- الانتقال من الحيوان إلى الإنسان.
- لدغة برغوث مصاب بالبكتيريا.
- استنشاق الهواء الحامل للبكتيريا.
- الاتصال بسطح أو ملامسة شيء يحمل المرض.
ويحتاج الطاعون إلى العلاج والرعاية الصحية، وإلا قد يموت المريض، وتشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية (WHO) إلى أنّ 30 - 100% من الحالات المصابة بالطاعون تموت إذا تُركت دون علاج. ومن حسن الحظ أنّ علاج الطاعون متوفر اليوم، وهناك مضادات حيوية متخصصة لمكافحة المرض.
اقرأ أيضاً: هذا ما أخبرتنا به مذكرات الطاعون الدبلي في القرن السابع عشر
هل كان الطاعون مرضاً مميتاً حقاً؟
لطالما ظننا أنّ الطاعون مرض مميت، إلى أن نشرت مجموعة من الباحثين في "معهد ماكس بلانك لتاريخ العلم" دراسة تفيد بأنّ الطاعون ربما لم يكن مميتاً كما ظننا في الماضي، ونُشرت الدراسة في دورية "نيتشر إيكولوجي" (Nature Ecology) في 10 فبراير/شباط 2022.
هناك فرضية منتشرة تقول إنّ الطاعون قضى على ما يقرب من نصف سكان أوروبا خلال فترة زمنية تُقدر بـ 5 سنوات، عندما تفشى الوباء هناك في القرن الرابع عشر. ونظراً لقلة المصادر التاريخية المكتوبة عن تلك الحقبة، كانت هناك العديد من علامات الاستفهام أمام العلماء. وفي الدراسة، جمع الباحثون عينات لحبوب اللقاح من 261 موقعاً في 19 دولة أوروبية وفحصوها جيداً، ودرسوا التغيرات الحاصلة في المناظر الطبيعية والأنشطة الزراعية، للتأكد من صحة الفرضية، ووجدوا أنّ الطاعون لم يؤثر على جميع المناطق بالتساوي، فقد نالت بعض المناطق نصيباً كبيراً من التأثير، بينما تأثرت بعض الأماكن الأخرى بصورة أقل.
من الشائع انتقال الطاعون عبر البراغيث الحاملة للمرض أو من الحيوانات إلى الإنسان، لكن كشفت الدراسة عن بعض العوامل الأخرى التي ظهرت في المناطق الحضرية أكثر من الريفية. منها: الاكتظاظ السكاني وسوء الصرف الصحي واتباع العادات غير الصحية. ساعدت هذه العوامل في انتشار المرض بصورة أسرع بين سكان المدن.
أما في المناطق الريفية، فكان انتشار المرض أقل، فقد كانت عمليات الزراعة تتم بنجاح، ما يعني أنّ هناك مزراعين وراء هذه الحركة الزراعية، حتى إنّ بعض المناطق مثل بولندا ووسط إسبانيا ودول البلطيق شهدت توسعاً في الزراعة في تلك الحقبة الزمنية الغامضة. فإذا كانت فرضية موت نصف سكان أوروبا حقيقية، كان ينبغي أن تُترك الأراضي الزراعية فترة طويلة من الزمن دون زراعة، بسبب اختفاء القوى العاملة من الفلاحين والمزارعين الذي تركوا أراضيهم وماتوا.
اقرأ أيضاً: كيف يساعد الطاعون العلماء على فهم الماضي؟
بين الشك واليقين
أكد بعض الباحثين على تطابق نتائج هذه الدراسة مع نتائجهم التي توصلوا إليها، بينما شكك آخرون في مدى صحة النتائج، خاصة وأنّ أوروبا كانت قارة مرتبطة ببعضها أثناء حقبة العصور الوسطى التي انتشر فيها الطاعون، فقد كانت هناك أسباب كثيرة تدفعها للتواصل منها التجارة والسفر والهجرة وغيرها، لذلك يصعب تصديق فكرة أنّ مناطق بأكملها نجت من هذا الوباء القاتل حينها.
أكدت العديد من المصادر التاريخية أنّ الطاعون قضى على نصف سكان أوروبا، لكن ما سبب هذا التأكيد؟ هل هي الكتب التاريخية والروايات التي كتبها أدباء عِظام أثناء تفشي الوباء؟ حسناً على أي حال، نحن في عصر العلم، وقد فتح العلم ملف الطاعون من جديد، ليخبرنا بما حدث، ويعيننا على فهم المرض جيداً، وربما يعيد سرد التاريخ من جديد.