تعرّف إلى ابن الهيثم العالم الذي يقف خلف اختراع الكاميرا

4 دقيقة
ابن الهيثم في ذكرى رحيله: من دراسة العين إلى تطوير الكاميرا
حقوق الصورة: بوبيولار ساينس العربية. تصميم: مهدي أفشكو.

"أولئك الذين يبحثون عن الحقيقة يجب ألا يكتفوا بدراسة كتابات أسلافهم. إذا أراد أحدهم أن يجد الحقيقة، فعليه أن يتعامل مع كل ما يقرأه كناقد" هذا ما قاله العالم العربي الحسن ابن الهيثم، وربما هذا ما ميزه عمّن سبقه من علماء. اشتهر ابن الهيثم بعمله في مجال البصريات، وأرسى القواعد لظهور التصوير الفوتوغرافي والسينما كما نعرفها اليوم. في ذكرى ابن الهيثم، مَن هو الرجل الذي يقف خلف اختراع الكاميرا؟

ابن الهيثم: الرجل الذي يقف وراء اختراع الكاميرا

قبل نحو ألف عام، وفي أوج ازدهار الحكم العباسي في بغداد، شهدت مدينة البصرة العراقية عام 965 للميلاد ولادة طفل صغير عُرف باسم الحسن بن الهيثم. عاش ابن الهيثم شبابه في بغداد، وتتلمذ فيها على يد خيرة العقول، في مجالات الفيزياء السماوية وعلم الفلك والبصريات وعلم المنظور. لكنه لم يقف هناك فقط، لقد نال العلم أيضاً من معرفة العلماء اليونانيين مثل إقليدس وأرسطو وبطليموس، إلا أنه لم يكن مستعداً لقبول نظرياتهم دون اختبارها أولاً، فتحدى أفكارهم، معرضاً نفسه للانتقاد.

قبل ابن الهيثم، سادت نظريتان رئيسيتان حول الرؤية في العصور القديمة الكلاسيكية:

  • نظرية الانبعاث: كانت مدعومة من قبل مفكرين مثل إقليدس وبطليموس، الذين اعتقدوا أن البصر يعمل بواسطة العين التي تنبعث منها أشعة الضوء.
  • نظرية الانطواء: المدعومة من أرسطو وأتباعه، حيث اعتبر أن هناك بنىً فيزيائية تدخل العين من جسم ما.

لكن كانت لابن الهيثم شكوك قوية حول النظرية اليونانية للأشعة البصرية. على سبيل المثال، أثار تساؤلاً: لماذا نُصاب بالإزعاج والألم عندما ننظر إلى الشمس مباشرة؟ اعتبر ابن الهيثم أننا نرى عندما ينعكس الضوء عن الأشياء إلى العين في خطوط مستقيمة وليس العكس، ولكنه لم يستطع إثبات ذلك.

لاحقاً، كان الحاكم الفاطمي في مصر، يبحث عن حل لمشكلة فيضان نهر النيل والتي تسببت في دمار كارثي للأراضي الزراعية ومحاصيلها في البلاد، فاقترح ابن الهيثم باندفاع بناء سد كبير معتقداً بقدرته على ذلك، وسافر إلى مصر. عندما وصل هناك، تفاجأ ابن الهيثم بحضارة الفراعنة وإبداعهم في تصميمها، وعلى الرغم من محاولاته العديدة فإنه لم يستطع هندسة السد، واعتبر أن التقنيات المستخدمة منذ العصور القديمة في وطنه على نهري دجلة والفرات سيكون مصيرها الفشل أمام نهر النيل العظيم سريع التدفق، وأنه لن يتمكن ممّا عجز عنه الفراعنة القدماء.

غضب الخليفة الفاطمي غضباً شديداً، وكان يُعرف عنه الرعونة والتسلط، فما كان أمام ابن الهيثم إلا أن ادعى الجنون، خوفاً من بطش الخليفة به، فتمّ سجنه لعشر سنوات حتى وفاة الحاكم (1011-1021)، استفاد خلالها من عزلته محولاً سجنه إلى مختبر أبحاث وكرّس نفسه لتجاربه لا سيما في مجال الرؤية، فأرسى قواعد علم البصريات كما نعرفه اليوم في أطروحته المكونة من سبعة مجلدات جمعها في كتاب "المناظر". بالإضافة لتأليف العديد من الكتب والفصول المهمة في الفيزياء والرياضيات والهندسة والفلك والطب وعلم النفس والتشريح والإدراك البصري وطب العيون.

كتاب المناظر: ولادة العلم في غرفة مظلمة

في غرفته المظلمة، رأى ابن الهيثم صورة للقمر على الجدار المقابل، لكنها كانت مقلوبة، إذاً "هكذا نرى العالم من حولنا". كانت غرفته المظلمة هي البرهان والدليل أنه على حق، حيث توصل ابن الهيثم لاستنتاجين وهما:

  • ينتقل الضوء في خطوط مستقيمة، فالرؤية تدرك بالضرورة جميع الأشياء من خلال خطوط مستقيمة مفترضة من الأشعة تنتشر بين الجسم والنقطة المركزية للمشهد.
  • يأتي الضوء من مصادر خارجية، وأن الخطوة الأولى في الرؤية تتحقق عندما يدخل الضوء إلى العين.

اقرأ أيضاً: لماذا تبدو هذه الخطوط عكس اتجاهها؟

حجرة التصوير: الكاميرا المظلمة

عندما مرّ ضوء القمر من خلال الثقب الصغير أحدث إسقاطاً مقلوباً، فلماذا؟ أدرك ابن الهيثم أن أشعة القمر دخلت الثقب في خطوط مستقيمة. استنتج بشكل عام، أنه عندما يسقط الضوء على جسم ما، فإنه ينتقل في خطوط مستقيمة بعيداً عن الجسم، فينعكس الضوء عن الجزء العلوي على سبيل المثال، في أشعة مستقيمة، في جميع الاتجاهات، لذا تكون في أسفل الصورة المنعكسة، بينما تنعكس الأشعة عن الجزء السفلي في اتجاه مستقيم نحو أعلى الصورة، تماماً كما يحدث في الجزء الأمامي من العين.

حقوق الصورة: shutterstock.com/ Sergey Merkulov

بدأ ابن الهيثم سلسلة من التجارب للتحقق من صحة نظريته التي وضعها بناء على الملاحظة، فأعاد إنتاج التأثير الذي رآه في ضوء القمر من خلال بناء ما يُعرف بالكاميرا المظلمة، وهي عبارة عن غرفة مظلمة أو صندوق مظلم صغير بفتحة صغيرة للسماح بدخول الضوء. لم تكن الكاميرا المظلمة اكتشاف ابن الهيثم بحد ذاتها، بل عرفت قبله منذ نحو 400 عام قبل الميلاد، حيث استخدمها الفيلسوف الصيني موزي لحماية عينيه أثناء دراسته كسوف الشمس. لكن وعلى الرغم من وجود مبادئ الكاميرا المظلمة منذ ما قبل عصر ابن الهيثم، فإنه كان أول عالم يفهم هذه المبادئ بوضوح ويحللها.

تم العثور على أقدم وصف واضح لمفهوم الكاميرا المظلمة، وكذلك مبادئ انكسار الضوء، وكيفية إدراكنا الرؤية في كتابه "المناظر". هذا الفهم للرؤية ومبادئ الكاميرا المظلمة هو الذي أدى إلى اختراع الكاميرا الحديثة كما نعرفها اليوم.

اقرأ أيضاً: تثبّت الزمن وتخلّد الذكريات: كيف تعمل الكاميرا؟

نظرية البصريات: كيف يأتي العالم إلى العين؟

من خلال مراقبة سلوك الضوء في حجرة الكاميرا، فهم ابن الهيثم أن شيئاً مشابهاً يجب أن يحدث في أعيننا، وهو ما كان محقاً بشأنه. توصل ابن الهيثم إلى أن كل نقطة من جسم ما تشع في جميع الاتجاهات، وأن بعض هذه الأشعة تصطدم بالقرنية، وهي الجزء الأمامي الشفاف والمحدب من العين والذي يغطي القزحية. تمر الأشعة عبر القرنية إلى الحدقة، وهي الفتحة الصغيرة خلف القرنية، ما يخلق إسقاطاً مقلوباً على العدسة. بدورها تنقل العدسة الأشعة كحزمة إلى العصب البصري في الدماغ، حيث يعيد الدماغ تفسير الإسقاط المقلوب للضوء، لذلك نرى الأشياء في الاتجاه الصحيح. وبذلك كان ابن الهيثم أول من أشار إلى أن الرؤية تحدث في الدماغ وليس في العينين.

قدّم ابن الهيثم في كتابه المناظر مخططاً تفصيلياً لتشريح العين، وصف فيه الأجزاء المختلفة للعين وأظهر مسارات الأعصاب البصرية، بالاعتماد على نظرية جالينوس حول الرؤية.

مخطط تفصيلي لتشريح العين

تطوير المنهج العلمي

تابع ابن الهيثم أبحاثه في القاهرة بعد خروجه من السجن، وبقي فيها حتى وفاته في 6 مارس/ آذار 1039. قدم خلال حياته أكثر من 100 عمل، نجا منها نحو 50 كتاباً فقط، فكانت الأساس الذي استند عليه العلماء في القرون التالية. أسهمت أبحاث ابن الهيثم في وقت لاحق، بتطوير العلماء لابتكارات مثل التلسكوب والمجهر والنظارات بالإضافة إلى الكاميرات. كما أسسّ طرق البحث العلمي الحديثة كما نعرفها اليوم، فعلى الرغم من عدم استخدامه الفيزياء التجريبية، وإنما اعتماده الافتراض والحواس، أدرك ابن الهيثم أن حواسه كانت عرضة للخطأ، فاتبع أسلوباً جديداً يقوم على التباين والاختبار والتحقق والتجريب، للتأكد من صحة ما توصل إليه بدقة، وهذا كان غير عادي في عصره.

سُميت فوهة بركان على القمر باسم "الحسن" (Alhazen)، وهي الترجمة اللاتينية لاسمه "الحسن" تكريماً لمساهماته الهائلة في البصريات وتطورات الكاميرا.

اقرأ أيضاً: لماذا تراجعت الاكتشافات العلمية الثورية؟

إذاً، لقد كانت الدراسات والأبحاث التي قام بها ابن الهيثم في مجال البصريات محورية في تطور التصوير الفوتوغرافي والسينما. فقد أسس ابن الهيثم نظرية الإشعاع المستقيم والانكسار، وهذا كان أساساً لفهم كيفية انعكاس الضوء عن الأجسام وتكون الصورة في عين المشاهد. ولذلك، يمكن القول إن ابن الهيثم كان من بين أولئك الذين أسهموا في تطور فن التصوير والسينما، واستحق لقبه "أبو البصريات" عن جدارة.

المحتوى محمي