في شمال بلدة «ماكاريف»، على بعد نحو 48 كيلومتراً من وسط مدينة كييف، أبلغت القوات الأوكرانية في شهر مارس/آذار 2022 عن استيلائها على نظام «كراسوكا-4» الحربي الإلكتروني التابع للقوات الروسية. وعلى الرغم من أنه يشبه حاوية نقل لها ألواح غير منتظمة الشكل، إلا أنه في الواقع جهاز تشويش إشارة متطوّر صُمم لتعطيل أجهزة الإنذار المبكّر للطائرات. تعود صور النظام إلى منتصف شهر مارس/آذار 2021، على الرغم من أنها لم تُتداول عبر الإنترنت حتى 22 مارس/آذار على الأرجح. أفاد موقع «ذا لندن تيليغراف» في 23 مارس/آذار أنه «سيتم نقل المعدّات براً على الأرجح إلى قاعدة القوات الجوية الأميركية في رامشتاين، ألمانيا، قبل نقلها جواً إلى الولايات المتحدة لفحصها بدقة».
اقرأ أيضاً: نظرة عن كثب على الترسانة النووية لروسيا وباقي دول العالم
نظام كراسوكا: قوة إلكترونية وتهديد أمني كبير
مع وجود نظام كراسوكا في أيدي الأميركيين، فإن أي محاولة من جانب روسيا لإعادة إنشاء برنامج الحرب الإلكترونية الخاص بها يجب أن تنطلق من افتراض أن الابتكارات السرية في النظام الذي تم الاستيلاء عليه أصبحت معروفة الآن.
يعتبر الاستيلاء على هذا النظام إنجازاً مهمّاً، إذ تعد الحرب الإلكترونية جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيات قتال الجيوش الحديثة، ويمكن أن تمنح الآلية الدقيقة للكشف والتشويش وتعطيل الإشارات ميزة كبيرة للجيش الذي يطبّقها. منذ أن أطلقت روسيا لأول مرة قدرات الحرب الإلكترونية الخاصة بها ضد أوكرانيا في عام 2014، تعامل الجيش الأميركي مع هذا التهديد على أنه حقيقي وخطير ويستحق الدراسة والتقليد.
بالنسبة للطرف الذي تُستخدم ضده هذه الأنظمة، يمكن أن يعني هذا فشل أنظمة المعدات العسكرية الضرورية. أفاد موقع مجلة «فورين بوليسي» أنه بعد وقت قصير من وصول معدات الحرب الإلكترونية الروسية إلى شبه جزيرة القرم في عام 2014، «بدأت القوات الأوكرانية في اكتشاف أن أجهزتها اللاسلكية وهواتفها كانت تتعطّل لساعات».
في عام 2014، ادّعت وسائل الإعلام الروسية أن العديد من الطائرات الروسية التي كانت تحلق فوق البحر الأسود نجحت في تعطيل الأنظمة المضادة للطائرات والرادارات التابعة لإحدى السفن الحربية الأميركية باستخدام نوع جديد من أجهزة التشويش. ركزت تصريحات البنتاغون فقط على مسألة اقتراب الطائرات من السفينة. ووصف تقرير لاحق الرواية الروسية بأنها «خاطئة بشكل واضح»، وذكر أن «روسيا تمتلك بالفعل إمكانيات متزايدة في الحرب الإلكترونية، وأن قيادتها السياسية والعسكرية تدرك أهمية التقدم التقني في هذا النوع من الحروب. إن القدرة الروسية المتزايدة على تشويش الاتصالات الرقمية أو تعطيلها قد تزيد فرص النصر عند القتال ضد خصم تقليدي متفوق».
تُعرِّف وزارة الدفاع الأميركية الحرب الإلكترونية بأنها «استخدام الجيوش الطاقة الكهرومغناطيسية للتحكم في الطيف الكهرومغناطيسي ومهاجمة العدو». بشكل أكثر دقة، يعني هذا تشويش أجهزة الاستشعار التي تتحسس أي جزء من الطيف الكهرومغناطيسي، مثل الرادارات التي تعتمد على الموجات الراديوية، أو الطائرات بدون طيار التي تُوجَّه باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس)، أو حتى الهواتف المتصلة بالأبراج الخلوية.
اقرأ أيضاً: تحمل الأقمار الصناعية: أكبر طائرة بدون طيار في العالم
يمكن أن تعطّل أجهزة التشويش أيضاً الأسلحة التي تعتمد على الإلكترونيات، كأن تتسبب في انفجار فتيل إلكتروني في قذيفة مدفعية قبل أوانه. كما يمكن أن تؤثر أيضاً على أنظمة التوجيه في بعض أنواع الصواريخ، ما يؤدي إلى تعطيلها أو على الأقل تشويش إشارتها أثناء الطيران. تحتوي أجهزة التشويش المتطورة على أجهزة استشعار لمسح المناطق بحثاً عن إشارات، ثم مطابقتها مع الأنماط المعروفة، ومعايرة الاستجابة المناسبة عن طريق إرسال إشارات لها نفس التردد.
طائرات ريفين، نقطة ضعف أحسنت روسيا استغلالها
خلال خوض أوكرانيا حربها الطويلة ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا في مدينة دونيتسك في عام 2015، أرسلت الولايات المتحدة فائض المعدات العسكرية من الحروب في العراق وأفغانستان. وتمكّنت الأنظمة الروسية من التشويش على الطائرات بدون طيار من طراز «ريفن» التي يتم إطلاقها يدوياً، والتي أثبتت عمليتها في مهمّات الاستطلاع أثناء قتال المتمردين.
قال «ناتان شازين»، مستشار الجيش الأوكراني، لوكالة «رويترز» الإخبارية في ديسمبر/كانون الأول من عام 2016 إن طائرات ريفين التي قدمتها الولايات المتحدة كانت مخزّنة لفترة طويلة، ووصفها بأنها كانت تمثّل نقطة ضعف سمحت للعدو بكشف المواقع العسكرية الأوكرانية، والاستيلاء عليها بسهولة إذا أراد ذلك. كان عمر بطاريات هذه الطائرات قصيراً ولم تتمكن من أداء المهمة الرئيسية المتمثلة في جمع المعلومات الاستخباراتية حول مواقع المدفعية الروسية بشكل موثوق».
كانت طائرات ريفين قديمة عند وصولها إلى أوكرانيا، مع العلم أن الولايات المتحدة كانت تستخدم نماذج ميدانية مزودة بأنظمة اتصالات أكثر أماناً في ذلك الوقت. تعتبر الطائرة بدون طيار وسيلة استكشافية مفيدة طالما لم يتمكن العدو من كشف إشاراتها ومراقبتها. لكن عند كشفها، فهي تعطي فكرة للعدو عن موقع مركز تشغيلها، ونوع الأهداف التي كانت تبحث عنها.
تم تصميم نظام «كراسوكا-2»، وهو إصدار آخر من نفس النظام الذي تم الاستيلاء عليه في بلدة ماكاريف الأوكرانية، للتشويش على مجال واسع من الإشارات، بما في ذلك إشارات أنظمة الإنذار المبكر المحمولة جواً، وهي طائرات تابعة لحلف شمال الأطلسي تتخصص في كشف الأهداف البرية والجوية على مساحات واسعة. في يوليو/تموز 2018، رصدت أجهزة المراقبة أنظمة كراسوكا-2 الروسية تستخدم في دونيتسك. وفي سوريا، تفاخرت روسيا بأن أنظمة كراسوكا-4 يمكنها التشويش على إشارات الطائرات والطائرات بدون طيار التي يصل بعدها إلى 197 كيلومتراً عن الجهاز.
قبل الاستيلاء على نظام كراسوكا-4، كانت الولايات المتحدة قد توصّلت إلى فهم أوليّ لأنظمة كراسوكا من خلال مراقبة التداخل وتحديد الإشارات التي يمكن أن يشوش عليها هذا النظام. واجهت الولايات المتحدة هذه الأنظمة عندما حلقت الطائرات بدون طيار الأميركية مع الجيش الأوكراني، وعندما قامت الطائرات بدون طيار التي تديرها الولايات المتحدة بعمليات مشتركة مع القوات الروسية في الأجواء السورية.
ذكرت مجلة «آرمور» العسكرية في عدد خريف 2020 أنه «من خلال التشويش على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي، يمكن استخدام مركبات الحرب الإلكترونية لتوليد نطاق من التداخل الموجي للتخفي عن أنظمة استشعار التهديدات. بالنسبة للأنظمة الأكبر حجماً التي تطير على ارتفاعات تتجاوز مجال نيران الأسلحة الصغيرة، قد يمثّل ذلك استراتيجية مضادة فعالة».
اقرأ أيضاً: هل يجب علينا القلق حيال الانفجار النووي في روسيا؟
تعتبر الطائرات بشكل عام والطائرات بدون طيار على وجه التحديد فعالة للغاية في مواجهة القوات البريّة، إذ أنها قادرة على كشف المواقع وتوجيه نيران المدفعية. إن استخدام أجهزة التشويش لإنشاء مناطق لا تعمل فيها الطائرات بدون طيار يوفّر بعض الحماية ضد هجمات هذه الطائرات. كان نظام كراسوكا-4 الذي تم الاستيلاء عليه جزءاً من رتل من المركبات في الجانب الغربي من كييف، وبكونه جزءاً من محاولة أولية لتطويق العاصمة الأوكرانية، كان من الممكن أن يمنع نظام الطائرات بدون طيار الأوكرانية من توجيه نيران المدفعية بعيدة المدى على الرتل لبعض الوقت.
باستخدام نظام كراسوكا الذي تم الاستيلاء عليه، يمكن للمهندسين العسكريين البدء في فهم أنظمة الحرب الإلكترونية الروسية التي كانت مخيفة للغاية في بداية الحرب.