تنقسم قشرة الأرض إلى سبع صفائح تكتونية رئيسية، تنزلق وتتصادم باستمرار مع بعضها بعضاً. لا يمكنك رؤية ذلك يحدث، ولكن يمكنك رؤية نتائجه؛ على سبيل المثال، عندما تصطدم الصفائح، تنهض الجبال وتنفجر البراكين، بينما تنشأ الوديان والبحار عندما تتباعد عن بعضها.
لكن القشرة ليست الوحيدة التي تتصرف بهذا الشكل. تتكون العديد من المعادن، مثل الفولاذ والنحاس والألمنيوم، والتي تعتبر مهمة جداً في عالم الصناعة الحديث، من قطعٍ صغيرة من البلورات أو الكريستالات. إذا أخذت صفيحة من أحد تلك المعادن وسحبتها أو سحقتها، فإن تلك القطع الصغيرة تتحرك عكس بعضها بعضاً، مثل الصفائح التكتونية تماماً، ويمكن أن تتغير حدودها.
تقنية التلاعب بحركة الذرات في البلورات
بعد سنوات من محاولة رؤية تلك الحدود المتغيرة بأعينهم، أظهر علماء المواد أن بإمكانهم التكبير إلى المستوى الذري لمشاهدة حدوث ذلك. في دراسةٍ نُشرت في دورية «ساينس» في 17 مارس/آذار، أظهر العلماء كيف أن ذلك يمكن أن يتيح للباحثين القدرة على التلاعب بالحبيبات البلورية وتشكيل المعادن في لبناتٍ بنائية أفضل لأغراض التصنيع.
قد يبدو من الغريب وصف المعادن بالبلورات، ولكن الكثير منها هي كذلك، تماماً مثل الأحجار الكريمة والجليد. ما يميز البلورة هو أن ذراتها مرتبة في أنماط هندسية منتظمة، مثل الأنماط السداسية أو المكعبة، والتي تتكرر في المادة. بالمقابل، فإن الزجاج الصلب ليس بلورياً، لأنه ليس لذراته هيكل محدد ويمكن أن تستقر كيفما اتفق.
يمكنك النظر إلى هذه الأنماط على أنها شبكات شوارع في المدن. ولكن إذا كان المركز الحضري كبيراً بدرجة كافية، فمن المحتمل ألا تكون هناك شبكة موحدة. يمكن أن تتكون المدن الضخمة مثل نيويورك أو طوكيو أو جاكرتا من العديد من المدن أو الضواحي أو الأحياء الأصغر، ولكل منها شبكتها الخاصة الموضوعة بطريقةٍ مختلفة.
تسمى الأنماط في المعادن «متعدد البلورات» (polycrystals)، وتسمى مكوناتها البلورية الصغيرة بالحبيبات البلورية. قد تشترك الحبيبات البلورية في نفس النمط، ولكنها لا تتصل بجيرانها بشكل منتظم ودقيق. في بعض الأحيان لا تصطف ذرات حبيبة بلورية واحدة مع ذرات حبيبة أخرى، أو تنتظم بزاوية مختلفة.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن يكون صدأ المعادن وسيلة لتخزين الطاقة الكهربائية؟
علاوة على ذلك، فإن الحبيبات البلورية ليست ساكنة أو ثابتة، بل تنزلق أمام بعضها بعضاً أو تلتوي وتقفز. في لغة علماء المواد، يشار إلى هذا باسم حركة حدود الحبيبات. يمكن لهذه الحركة تغيير سلوك المادة بأكملها عندما تكون تحت الضغط. واعتماداً على كيفية ترتيب الحبيبات، يمكن أيضاً أن تصبح المادة أكثر صلابة، أو أكثر هشاشة.
يحاول الباحثون دراسة حركة حدود الحبيبات هذه منذ عقود. كانت المشكلة التي واجهتهم للقيام بذلك هي أن عليهم التكبير بدرجة كافية لفحص الذرات الفردية في قطعةٍ من المادة.
في السنوات الأخيرة، اقتربوا من تحقيق هذا الهدف بفضل المجهر الإلكتروني النافذ، والذي يمسح شريحة من المواد عن طريق غمرها بالإلكترونات ورؤية الأشكال التي تظهر على الجانب البعيد الآخر.
اقرأ أيضاً: دليلك للتعرف على المجاهر الإلكترونية التي ساعدت حتى على رؤية الذرة
تحليل البلاتين ودراسة حركة ذراته
تعمل هذه الطريقة عندما تكون حدود الحبيبات بسيطة، مثل المكعبات ذات السطوح الثنائية المستوية والمتباعدة عن بعضها بعضاً. لكن معظم الحدود أكثر تعقيداً بكثير؛ فقد تكون غير منظمة أو مرتبة بزوايا غريبة بين بعضها بعضاً. يقول تينغ تشو، مهندس المواد في معهد جورجيا للتكنولوجيا وأحد مؤلفي الورقة العلمية: «من الصعب جداً مراقبة وتتبع وفهم الحركات الذرية في مثل هذه الحدود».
درس تشو وزملاؤه البلاتين، والذي على الرغم من ندرته، كثيراً ما يستخدم في شفرات توربينات الرياح، والأقراص الصلبة للكمبيوتر، والمحولات الحفازة للسيارات. أخذ تشو وزملاؤه مقاطع عرضية من البلاتين بسمك بضعة أجزاء من المليار من المتر، وقاموا بتمريرها عبر المجهر الإلكتروني. كما استخدموا أيضاً متعقباً آلياً للذرات- وهو نوع من البرامج- لفحص الصور الخارجة من المجهر ووسم الذرات. باستخدام هذه الطريقة، يمكن للباحثين تتبع كيفية تحرك تلك الذرات الفردية بمرور الوقت.
عندما قاموا بتحليل البلاتين، اكتشفوا شيئاً لم يتوقعوه. في بعض الأحيان، عندما تتحرك الحبيبات البلورية وتتحرك حدودها، تقفز الذرات الموجودة على الحافة من حبة إلى أخرى. فتنحني الحدود وتتغير لاستيعاب المزيد من الذرات.
يقارن تشو حركة الذرات بحركة أعضاء فرقة المراسم الموسيقية، يقول موضحاً: «عندما يتحرك صف من أعضاء الفرقة لتمرير صف مجاور بالتوازي، يتم دمج صفين من أعضاء الفرقة في صف واحد».
قد يبدو البلاتين وكأنه حالةٌ استثنائية واضحة في هذا المجال، ولكن تشو يقول إن عملهم يمكن أن يتم على معادن أخرى أيضاً. إذ يمكن أن يؤدي التلاعب بالحبيبات في الفولاذ والنحاس والألمنيوم إلى جعل هذه المعادن أكثر متانة ومرونة في نفس الوقت.
هذا شيء قد يفكر فيه علماء المواد في المستقبل. يقول تشو: «إن تعديل مثل هذه البلورات المتعددة ذات الحبيبات الدقيقة هي استراتيجية مهمة لصنع مواد أقوى من الناحية الهندسية».
ويقول تشو إنه يتوقع العثور على مثل حركة الحدود الحبيبية هذه في معظم المعادن، بما في ذلك السبائك التي تحتوي على ذراتٍ من عناصر متعددة. للتأكد، يتعين على علماء المواد تكبير ذرات كل عنصر على حدة، ودراسة ما يجعل حركة الحدود بين ذرات الألمنيوم مختلفةً عن تلك الموجودة في النحاس.