تخترق كمية قليلة للغاية من الضوء فقط منطقة الشفق في المحيط. وهي منطقة حديّة ضبابية يجب على الحيوانات البحرية عبورها في رحلتها إلى الظلام الدامس. هذه المنطقة مثالية لأسماك القرش المتخفية. لكن لا يزال علماء الأحياء لا يعرفون بالضبط الأماكن التي تذهب إليها القروش وما تفعله في ظلال هذا العالم السفلي.
لكن ما يعرفه العلماء هو أن هناك ممرات سرية تتحرك فيها أسماك القرش مسافرةً عبر المحيطات دون أن يلاحظها أحد في أعماق منطقة الشفق، والتي تتراوح بين 200 و1000 متر تحت سطح المحيط. على الرغم من أن أجهزة التعقّب المقترنة بالأقمار الاصطناعية ساعدت العلماء على فهم سلوك أسماك القرش قليلاً، فإنه لا تزال هناك فجوات في البيانات ناتجة عن محدودية التكنولوجيا المستخدمة. يتم حالياً تطوير نوع جديد من أجهزة التعقّب. ويأمل العلماء في أنه سيمزج بين أفضل المزايا المتوفرة في تكنولوجيا علوم الأحياء البحرية ليمنح العلماء صورة أوضح عن الطريقة التي تتحرك فيها أسماك القرش في منطقة الشفق.
يحمل سايمون ثورولد (Simon Thorrold)، كبير العلماء في معهد وودز هول لعلم المحيطات في يده جهازاً بصلي الشكل ورمادي اللون لا يتجاوز حجمه حجم قبضة يده. يشرح ثورولد قائلاً إن هذا الجهاز يحمل اسم جهاز التعقّب الأرشيفي المرسل والمقترن بالأقمار الاصطناعية، وهو أحد أجهزة التعقب التقليدية التي يستخدمها العلماء لتعقّب حركة الحيوانات التي تعيش في المحيط مثل أسماك القرش وأسماك التونة. يتم تثبيت هذا الجهاز في الأنسجة العضلية للحيوانات بواسطة حبل قصير وهو يسجّل باستمرار درجات الحرارة والعمق وشدة الضوء. يتحسس الجهاز التغيرات في شدة الضوء في أثناء شروق الشمس أو غروبها وخلال النهار لتقدير موقع الحيوانات بشكل تقريبي، مثل ما إذا كانت في البحر المتوسط أو خليج المكسيك.
بعد فترة زمنية مضبوطة مسبقاً، ربما شهرين أو نحو ذلك، يتفعّل سلك احتراق ويفصل جهاز التعقب عن الحيوان، ما يسمح له بالطفو على سطح البحر. لا يتواصل جهاز التعقب مع أي قمر اصطناعي خلال عمله أبداً. وعندما يطفو، فهو يرسل ملخصاً بالبيانات التي جمّعها لقمر اصطناعي يدور حول الأرض. ثم تصل هذه البيانات إلى الباحثين في أماكن عملهم.
تم استخدام نوع آخر من أجهزة التعقب الصغيرة التي تحمل اسم سبوت لتحديد مواقع الحيوانات بشكل أكثر دقة، ولكن نسبة الخطأ في تحديدها للموقع قد تصل إلى 1.6 كيلومتراً.
تعتبر أجهزة التعقّب هذه شائعة وموثوقة، ولكن لها عيوبها. تحتاج أجهزة التعقّب الطافية الضوء لإتمام عملية تحديد الموقع الجغرافي. يقول ثورولد: "إذا كنا نحاول تعقّب أنواع تقضي الكثير من الوقت في منطقة الشفق حيث لا يوجد الكثير من الضوء، فلن نتمكّن من تعقّبها باستخدام هذه الأجهزة عندما تغوص للأعماق. هذه مشكلة كبيرة لأن الكثير من الأسماك الكبيرة التي تعيش في منطقة البحر المفتوح تقضي الكثير من الوقت في المياه العميقة حيث لا تكون مستويات الضوء كافية لعمل أجهزة التعقّب". من ناحية أخرى، لا تستطيع أجهزة سبوت إرسال البيانات إلا في ظروف خاصة. إذ يجب أن يصعد الحيوان الذي يحمل الجهاز إلى السطح حتى يتمكن هذا الأخير من التواصل مع الأقمار الاصطناعية لتحديد موقع الحيوان.
كما أن هذه الأجهزة مناسبة فقط لتعقّب الحيوانات البحرية الكبيرة والإفرادية والتي تمتلك زعانف ظهرية صلبة. يقول ثورولد: "هناك عيب كبير في نوع تكنولوجيا التعقّب التي نستخدمها".
بيئة غنية في الأعماق
أتت أول مجموعة بيانات حصل عليها فريق ثورولد من جهاز التعقّب الطاف المقترن بالأقمار الاصطناعية في عام 2011 من باحث متعاون آخر اسمه غريغ سكومال، والذي ثبّت مجموعة من أجهزة التعقّب على أسماك القرش المتشمّس قبالة شاطئ رأس كود في ولاية ماساتشوستس. تعيش أسماك الرش المتشمّس، والتي تعتبر ثاني أكبر الأسماك في العالم بعد أسماك القرش الحوتية، في هذه المنطقة خلال الصيف ثم تختفي. يقول ثورولد: "تساءل العلماء لفترة طويلة عن المكان الذي تذهب إليه هذه الأسماك"، ويضيف: "اعتقد العلماء أنها كانت تغرق للقاع أو تدخل في فترة من السبات ثم تعود خلال الربيع".
لكن ظهرت أجهزة التعقب التي ثبّتها العلماء على هذه الأسماك في البحر الكاريبي بعد 7 أشهر. في البداية، عندما ظهر أحد أجهزة التعقب، ظن العلماء أنها صدفة. لكن بعد أسبوع، ظهر جهاز آخر في البحر الكاريبي. يقول ثورولد: "ما يثير الاهتمام أنه لم يتم التبليغ أبداً عن وجود أسماك القرش المتشمّس في البحر الكاريبي".
عندما استعاد العلماء هذه الأجهزة، اكتشفوا سبب ظهورها في البحر الكاريبي. إذ يقول ثورولد: "تعيش هذه الأسماك قريباً من السطح في مياه رأس كود. لكن عندما ترحل في الشتاء، فهي تغوص ولا تعود للسطح أبداً. تقضي هذه الأسماك فترات تمتد لأشهر في كل مرة على أعماق تتراوح بين 200 و1000 متر [منطقة الشفق]. وهي تذهب إلى البحر الكاريبي ولكن تبقى في الأعماق. ليست هناك طريقة للتأكد من أن هذه الأسماك تعيش في أعماق البحر الكاريبي، لكن هذا مرجح للغاية".
من قبل، كانت إحدى الطرق التي يستطيع العلماء الحصول فيها على المزيد من المعلومات هي تثبيت جهازين للتعقّب على كل حيوان، أي استخدام أجهزة التعقّب الطافية وأجهزة سبوت على نفس الحيوان. قرابة عام 2012، بدأ ثورولد وزملاؤه بفعل ذلك. إذ ثبّتوا نوعين من أجهزة التعقب على أسماك القرش وأسماك الورنك الكبيرة وأسماك القرش الحوتي. يقول ثورولد: "أحد السلوكيات التي لاحظناها بسرعة هو أن كل الحيوانات التي تعقبناها غاصت لأعماق أكبر مما كنا نتوقع". ينطبق هذا على أسماك القرش الحوتي، والتي تفرّخ في أماكن مخفية بالنسبة لنا.
على مدى السنوات القليلة التالية، تم إجراء المزيد من الدراسات التي بيّنت أن هناك نظاماً بيئياً ثرياً غير معروف نسبياً ومليئاً بالأسماك الكبيرة والكائنات الحية الأخرى في منطقة الشفق. يعتقد أن الحيوانات التي تعيش في منطقة الشفق تؤدي دوراً في بعض الظواهر العالمية مثل توازن المناخ والحفاظ على استقرار الشبكات الغذائية في المحيط.
يقول ثورولد: "المثير للاهتمام هو أن بيانات التعقّب بيّنت أن أسماك القرش والورنك كانت تعرف أن هذا النظام البيئي موجود. لذا عندما كانت تدخل المياه المفتوحة، وخصوصاً الدوامات المحيطية المفتوحة حيث لا توجد الكثير من الكائنات عند السطح، كانت الأسماك تغوص للأعماق"، ويضيف: "يتساءل علماء الأحياء الآن عن مدى اعتماد هذه الأسماك المفترسة على هذه الكتلة الحيوية العميقة".
قام الباحثون بتثبيت نوعين من أجهزة التعقب على أحد أنواع أسماك القرش الاستوائية التي تعيش في المياه العميقة (القرش الأزرق)، وتمكّنوا من استخدام البيانات الواردة لإظهار الطريقة التي كانت تستخدم فيها أسماك القرش البيئات المحيطية، وخصوصاً الدوامات المركزية الدافئة (وهي كتل مائية دافئة تدور)، لتصل إلى أعماق المحيط (لتتغذّى على الأرجح) بطرق لم تكن ممكنة دون وجود هذه الدوامات. يقول ثورولد: "بيّنت لنا هذا البيانات التفاعل بين التيارات المحيطية، وخصوصاً تلك العواصف صغيرة الحجم والضيقة في المحيط، وهذه المفترسات الكبيرة المستعمرة".
جهاز تعقّب جديد
يختبر فريق ثورولد حالياً نوعاً جديداً من أجهزة التعقب التي تحمل اسم روم (ROAM). هذه الأجهزة الجديدة أصغر بكثير من أجهزة سبوت وأجهزة التعقّب الطافية. يبلغ طول الأجزاء الداخلية من هذا الجهاز بضع سنتيمترات، وسيسمح للباحثين بتحديد مواقع الحيوانات في ظروف الإضاءة الخفيفة حتى لو لم تصعد إلى السطح. يقول ثورولد: "إنه جهاز يعمل في الأعماق ويتيح [لنا إجراء] عملية التعقّب عبر مناطق واسعة وبدقة كافية تسمح لنا بإجراء عملية تحليل البيانات التي نقوم بها عند الحصول على بيانات الموقع الخاصة بنظام تحديد المواقع من أجهزة تعقّب سبوت". بشكل أساسي، تمزج الأجهزة الجديدة البيانات التي يحصل عليها الباحثون من أجهزة التعقّب الطافية وأجهزة سبوت في جهاز واحد أصغر يمكن تثبيته على المزيد من أنواع الأسماك مثل التونة وسمك أبو سيف.
يقول ثورولد: "هذا كان الدافع العلمي وراء تطويرنا لأجهزة روم الجديدة، وهو الرغبة بمعرفة ما إذا كانت هذه الأنواع من الأسماك تستخدم هذه البيئات كما تستخدمها أسماك القرش".
تكنولوجيا أجهزة روم ليست جديدة كلياً. إذ إنها تمثّل نسخة مصغّرة من عوامات تحمل اسم رافوس، وهي أسطوانات زجاجية يبلغ طولها 1.8 متر وتستطيع قياس درجات الحرارة ومستويات ملوحة المياه والضغط. يحتوي كل من جهاز روم والعوّامات على سماعات مائية وساعات.
تستشعر أجهزة روم الأصوات التي تصدرها مجموعة من المنارات وضعها الباحثون في مواقع ثابتة في المحيط شأنها شأن العوامات. وتتألف هذه المنارات، أو مصادر الصوت، من أنابيب كبيرة متصلة بمراسي أوقيانوغرافية تصدر مجموعة متنوعة من الإشارات الصوتية التي تتراوح تردداتها بين 261 و263 هرتز على عمق نحو 1.6 كيلومتر حيث توجد قناة الصوت العميقة في المحيط. يقول ثورولد: "تستطيع بعض أنواع الحيوانات تحسس هذه الترددات، والتي لا تعتبر عالية بما يكفي لتشكّل موجة صدم". يستطيع الصوت الانتقال لمئات الكيلومترات في قناة الصوت العميقة. ونظراً لاتساع مجال هذه المنارات، ليس بالضرورة أن يتم وضع العديد من مصادر الصوت لتغطية مساحات واسعة من المحيط. تتم برمجة هذه المنارات لإصدار إشارة ضوئية لمدة 35 ثانية تقريباً مرتين يومياً.
اقرأ أيضاً: اكتشاف أحفورية قد تغير ما نعرفه عن سمك القرش
عندما يتحسس جهاز التعقب إشارة ما من مصدر الصوت، فهو يسجلها ويوثّق تاريخها. باستخدام بعض الافتراضات المتعلقة بسرعة انتشار الصوت في الكتل المائية، يستطيع الباحثون تقدير المسافة بين جهاز التعقب ومصدر الصوت. إذا تلقّى جهاز تعقّب ما إشارتين من مصدرين مختلفين، سيعرف الباحثون أنه موجود في واحد من موقعين فقط. وإذا تلقّى 3 إشارات من مصادر صوتية مختلفة، سيتمكن الباحثون من حصر موقعه في مثلث. يتم نقل البيانات من أجهزة تعقّب روم عبر الأقمار الاصطناعية عندما تطفو إلى سطح المحيط.
يقول ثورولد: "يصبح من الممكن التفكير في نشر مصادر الصوت وأجهزة التعقّب واستخدامها لتعقّب هذه الأسماك في عمود مائي ما وعبر مناطق واسعة من المحيط بدقة كبيرة"، ويضيف: "بأخذ كل هذه الأمور بعين الاعتبار، نعتقد أن لدينا تكنولوجيا ثورية تساعدنا في تحديد المناطق التي تذهب إليها الحيوانات في المحيط والظواهر البيئية التي تستفيد منها لفعل ذلك".
تعتمد فعالية أجهزة روم للتعقّب على مدى قدرة العلماء على تغطية المنطقة التي يدرسونها باستخدام مصادر الصوت. يعني هذا أن العلماء بحاجة لتصميم شبكة المنارات بدقة. سيختبر ثورولد وفريقه في صيف 2022 كم يجب أن تكون المسافة بين كل منارة للاستفادة منها بأكبر قدر ممكن. لقد وضعوا مصدرين صوتيين بالفعل في المحيط، كما أنهم يخططون لوضع مصدرين آخرين. ويقدّر ثورولد أن ذلك "سيمنحهم تغطية جيدة في منطقة يبتعد فيها تيار الخليج عن الشاطئ ويشكّل عدداً كبيراً من الدوامات".
إن استخدام أجهزة التعقب الجديدة لتحديد مواقع الحيوانات هو جزء كبير من مشروع منطقة الشفق التابع لمعهد وودز هول لعلوم المحيطات. يتم نشر هذه الأجهزة إلى جانب أجهزة أخرى مثل الروبوتات وأجهزة تجميع عينات الحمض النووي البيئي. على الرغم من أن الفريق بدأ بنشر مصدرين صوتيين فقط في شمال غرب المحيط الأطلسي، فإن هناك إمكانية لتوسيع المنطقة لتغطية أجزاء من غرينلاند والمملكة المتحدة وأوروبا.
يأمل ثورولد أنه من خلال تجميع المزيد من البيانات حول بيئة منطقة الشفق والطريقة التي تستخدمها فيها هذه المفترسات الكبيرة للتنقّل في العالم، سيستطيع الباحثون توجيه الجهود المستقبلية الدولية المتعلقة بحفظ الأنواع والإدارة الديناميكية للثروات السمكية. ما يساعد في حماية الأنواع المهددة بالانقراض مثل القرش الحوتي والحفاظ على الأمن الغذائي بنفس الوقت.
يقول ثورولد: "هناك مقاربات جديدة لإدارة الثروات السمكية نريد دعمها والمساعدة في تطبيقها. تدعى إحدى هذه المقاربات الإدارة الديناميكية للثروات السمكية، والتي يتم فيها أخد حركة الأسماك بعين الاعتبار"، ويضيف: "لدينا هذه التكنولوجيا الرائعة، ونستطيع تحديد موقع الأسماك وقوارب الصيد، كما نستطيع أن نطبق طرقاً أكثر ذكاءً في الصيد وانتقاء مواقع الصيد".