دراسة: أصوات الأسماك تخبرنا بحالة الشعاب المرجانية

6 دقائق
الشعاب المرجانية
حقوق الصورة: فالكيري بيرس/ أنسبلاش.

عندما تخرج أسماك الشعاب المرجانية من بيوضها، تندفع على الفور في المحيط المفتوح حيث تمتلئ الحياة بالمخاطر. ولكن إذا نجحت في البقاء على قيد الحياة حتى النضوج، فإن الشعاب المرجانية ترسل لها نداءً للعودة إليها مجدداً لمعاودة دورة التكاثر.

هناك طرق عدة تستطيع الأسماك من خلالها البحث والعثور على الشعاب المرجانية والعودة إليها. تمتلئ هذه المجتمعات بالأصوات التي تصدر عن الحيوانات البحرية واللافقارية، ونظراً لأن الصوت ينتقل لمسافاتٍ بعيدة تحت الماء، يمكن للأسماك الصغيرة البعيدة عن الشعاب المرجانية الاستماع إلى الأصوات الصادرة منها ومعرفة مدى جودة الحياة فيها. غالباً ما تجذب البيئات التي تبدو جيدةً المزيد من الحيوانات إليها أيضاً.

تتمتع الشعاب المرجانية الصحية بمشهدٍ صوتي غني. يقول تيم لامونت، زميل أبحاث علم الأحياء البحرية بجامعة إكسترس: «تصدر الكثير من اللافقاريات والأسماك أصواتاً غريبة ورائعة لأسبابٍ مختلفة قد تكون غريبة أحياناً. سمعنا الكثير من الأصوات في التسجيلات، مثل الخرخرة والطنين والهدير». بالمقابل، يكون المشهد الصوتي في الشعاب المرجانية المتدهورة أكثر هدوءاً. ويوضح لامونت: «إذا كنت تعمل على استعادةالنظام البيئي للشعاب المرجانية، فإن سماع أصواتٍ تصدر منها سيكون مؤشراً جيداً حقاً على نجاح العملية».

اهتم لامونت وزملاؤه بدراسة العلاقة بين الأصوات والحياة تحت الماء، لكن هذه العملية ليست سهلة بشكلٍ عام. إذ غالباً ما تكون هناك حاجةٌ لتصفية الضوضاء في خلفية التسجيلات، بالإضافة إلى تفسير وتمييز جميع الأصوات. كانت هناك بعض المحاولات لأتمتة هذه العملية، ولكن ما تزال هناك الكثير من القيود التقنية.

أصبح ذلك واضحاً بعد التعاون الأخير مع شركة «مارس»، والتي طلبت من العلماء مراقبة التقدم في استعادة الشعاب المرجانية اعتماداً على علم البيئة الصوتية. (تتعاون شركة الشوكولاتة وأغذية الحيوانات الأليفة مع العلماء والمجتمعات المحلية لإعادة تأهيل الموائل المرجانية المتضررة في جميع أنحاء العالم كجزء من جهدها الأكبر لتعويض بعض آثارها السلبية على البيئة. كما مولت الشركة هذا المشروع الذي ينطوي على دراسة الأصوات تحت الماء جزئياً). وجدت الدراسة الناتجة عن هذا التعاون، والتي نُشرت هذا الأسبوع في دورية «أبلايد إيكولوجي»، أن الشعاب المرجانية التي كانت متدهورةً جراء صيد الأسماك باستخدام المتفجرات، بدأت تستعيد عافيتها أخيراً بعد الجهود التي بُذلت لاستعادتها، وذلك بدلالة الأصوات التي تصدر عنها.

علم البيئة الصوتية: نافذة جديدة على صحة النظام البيئي

تعتمد المجتمعات الساحلية على الشعاب المرجانية كمصدرٍ للغذاء ولأغراض أخرى. عندما تنهار هذه الهياكل نتيجة للأنشطة البشرية، مثل الصيد بالديناميت، يمكن أن يكون لذلك تأثير مدمر على الأشخاص الذين يعتمدون عليها في كسب رزقهم. وبالنظر إلى أن معدل التعافي الطبيعي لبيئات الأحياد المرجانية بطيء، فإن استعادة الشعاب المرجانية التي تشكّل أساس هذه النظم البيئية، يمكن أن يسهم إلى حدّ كبير في استعادة الأسماك وأشكال الحياة البحرية الأخرى إليها. ولكن ليس من السهل دائماً الحكم على ما إذا كانت استعادة هذه الموائل ستكون ناجحة أم لا. فوفقاً للامونت: «تختلف زراعة عدد قليل من الشعاب المرجانية عن استعادة نظام بيئي كامل». 

بصرف النظر عن معرفة ما إذا كانت الشعاب المرجانية بدأت بالنمو مجدداً، يجب على علماء البيئة أيضاً التحقق مما إذا كانت الشعاب المرجانية الجديدة قادرة على دعم الحياة البحرية، وتخفيف طاقة الأمواج والتحكم في مستويات الكربونات وتوفير الغذاء للمجتمعات الساحلية.

وهنا يأتي دور تحليل مشهد البيئة الصوتية، فهي مؤشر واعد يدل على تجدد التنوع العام للنظام البيئي لأنها قادرة على اكتشاف المزيد من الأحياء مقارنة بالصور والملاحظة البصرية. على سبيل المثال، يمكن لعلماء الأحياء سماع الأسماك المخفية أو المموهة جيداً، بالإضافة إلى ذلك يمكن للخبراء مراقبة الموائل على مدار الساعة من خلال الإصغاء إلى صوتها. يستطرد لامونت: «هناك أشياء مختلفة يمكنك قياسها من خلال طبيعة الأصوات وتعقيدها وارتفاعها ومدى تغيرها مع الزمن، أو مدى تباينها عند درجات مختلفة من النطاقات الصوتية».

لجمع كل البيانات الضرورية، زرع الفريق ميكروفونات أو مكبرات صوتية تحت الماء في أنحاء مختلفة من الشعاب المرجانية، سواء الصحية منها أو المتدهورة أو المُستعادة بعد تدهورها. لمدة عامين، كانت مهمة هذه الأجهزة تسجيل الأصوات الصادرة من تلك البيئات في مختلف الأوقات، عند الفجر والغروب وفي منتصف الليل وعند اكتمال القمر أو ولادته من جديد. يوضح لامونت: «أردنا أن نحصل على صورةٍ جيدة للمشهد الصوتي». 

على الرغم من أن العلماء لم يجدوا أن الأصوات التي تصدر عن بيئة الشعاب المرجانية المُستعادة متطابقة تماماً مع بيئة الشعاب السليمة، إلا أنها كانت مختلفةً جداً عن بيئة الشعاب المرجانية المتدهورة. كما يفسر لامونت: «تعود الكثير من الأصوات إلى بيئة الشعاب المُستعادة، ما يخبر العلماء أن العديد من المخلوقات البحرية قد عادت إليها».

فرز وقياس الأصوات

ثم جاء الجزء الأصعب لفريق لامونت؛ الجلوس في غرفة الصوت والتقاط الأصوات المختلفة وفرزها، مثل الخرخرات والنعيق والهدير وغير ذلك. كان الأمر أشبه بعزل الأصوات الفردية لآلاتٍ تعزف معاُ مقطوعةً معقدة في أوركسترا.

يقول لامونت: «يستهلك هذا العمل الكثير من الوقت. لقد قضيت شهوراً طويلة خلال هذه الدراسة في الاستماع بدقة إلى الأصوات من خلال سماعات الرأس. إنه أمر مجهد جداً في بعض الأحيان».

ويضيف لامونت: «يحاول الفريق الآن أتمتة العملية من خلال "جعل الكمبيوتر يقوم بالمهمة نفسها"، لكن من الصعب تفويض هذه المهمة للآلات في الواقع. بالنظر إلى غنى بيئة الشعاب المرجانية بالأحياء، سيكون هناك الكثير من الضوضاء في الخلفية التي يمكن أن تحرف نتائج تحليل الأصوات. عندما تستمع إلى التسجيلات، فإنك تسمع الكثير من الأصوات الصادرة عن اللافقاريات مثل طقطقة الجمبري، والتي تبدو مثل الخشخشة أو صوت قلي اللحم المقدد». في الواقع، هذه الأصوات عالية ومتكررة لدرجة أنه خلال الحرب العالمية الثانية، اعتادت الجيوش إخفاء الغواصات بالقرب من الشعاب المرجانية لأن أصوات الروبيان تخفي صوت الغواصات بشكل فعال».

لقد صُممت التقنيات الحسابية المستخدمة حاليا لقياس المشهد الصوتي، والتي يشار إليها أيضاً باسم المؤشرات الصوتية، غالباً كي تُستخدم في الموائل الأرضية، مثل الغابات، للاستماع إلى أصوات الطيور أو الخفافيش مثلاً. ومع ذلك، يرى لامونت الكثير من أوجه التشابه بين الغابات ومجتمعات الشعاب المرجانية. على سبيل المثال، يبدو أن الحيوانات المختلفة تنشط خلال فترات زمنية معينة، الأمر الذي من شأنه أن يساعد العلماء على فرز الأصوات حسب الزمان والمكان والتردد. يشرح لامونت: «لقد حاولنا تطبيق هذه المؤشرات على عالم ما تحت الماء. لكن بالطبع توجد أحياناً اختلافات جوهرية بين أنواع المشاهد الصوتية التي تجدها في الموائل المختلفة، لذلك قد لا تكون النتائج جيدة».

توصل العلماء الذين يدرسون المشاهد الصوتية للغابات إلى حلول إبداعية لبناء خوارزميات التعلم الآلي بحيث لا تعود هناك حاجةٌ لإنشاء محطات تسجيل بين الأشجار. يذكر لامونت ورقةً بحثية نُشرت في يوليو الماضي في دورية «الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأميركية» حيث استخدم باحثون من إمبريال كوليدج لندن وجامعة سيدني وجامعة كورنيل مجموعة بياناتٍ صوتية من جوجل لتدريب خوارزمية قادرةٍ على التعرف على الفروق بين الأصوات الفردية في الغابة.

عملت مجموعة الأصوات من جوجل، والتي تتكون من مزيجٍ من الأصوات البشرية والموسيقية وضجيج الآلات، على تعليم الخوارزمية أولاً التمييز بين أنماط الضوضاء المختلفة. ثم عندما طُبقت الخوارزمية على الغابة، كانت قادرةً على تصنيف أصواتها في فئات. وقد قال المؤلفون حينها إنه يمكن استخدامها للكشف عن الأنشطة غير القانونية في الغابة مثل قطع الأشجار أو الصيد.

يعتقد لامونت أنه يمكن إعادة توظيف خوارزمية مماثلة لفرز أصوات المحيطات التي ينبغي عليه تحليلها.

الحاجة إلى أجهزة أرخص

الطريقة الأخرى الأكثر تقليدية لتطوير خوارزمية تعلم آلي مفيدة لتسجيل المشاهد الصوتية تحت سطح البحر هي جمع أكبر قدرٍ ممكن من البيانات الصوتية. هناك جهود جارية في جميع أنحاء العالم لبناء مجموعات صوتية بحرية، ولكن تكلفة المعدات يمكن أن تكون عقبة حقيقية. على سبيل المثال، يمكن أن تبلغ تكلفة الميكروفون عالي الجودة والمزود ببطاقة ذاكرة كبيرة نحو 3 آلاف دولار.

يقول لامونت: «أسعار الأجهزة اللازمة لذلك باهظة جداً، وتمثل مشكلة حقيقية إذا ما أردنا المضي قدماً في مشروعنا». في أكتوبر/ تشرين الأول، نشر هو وزملاؤه دراسة في دورية «المؤشرات البيئية» (Ecological Indicators) تبين أن الصوت الذي يمكن لكاميرات «جو-برو Go-Pro» تسجيله، كان في كثيرٍ من الحالات بنفس جودة البيانات التي حصلوا عليها باستخدام الميكروفونات باهظة الثمن. يُذكر أن تكلفة هذه الكاميرات تبلغ نحو 500 دولار فقط.

ويضيف لامونت: «يمكن أن يفتح استخدام مثل هذه المعدات منخفضة التكلفة الباب أمام المزيد من الأشخاص الذين يمكنهم المشاركة. سيسمح لنا ذلك بجمع المزيد من البيانات التي من شأنها أن تغذي تقنيات التحليل الآلي هذه حتى نتمكن من استخراج المعلومات المفيدة بأقل جهدٍ ممكن».

لقد قطعت تكنولوجيا مراقبة المحيطات شوطا طويلا بالفعل. منذ حوالي عقد من الزمان، كانت الهيدروفونات تعمل على بكرات شريطية وكان لابد من توصيلها بكابل معلق بجانب القارب، حيث توجد محطة تسجيل غير مقاومة للماء، وقد أصبحت الآن لاسلكية تماماً ويمكن إنزالها إلى قاع البحر لأسابيع أو شهور في كل مرة لجمع البيانات.

يستطرد لامونت: «إن قدرتنا على التقاط تسجيلاتٍ لفترةٍ طويلة وبجودة عالية تحت الماء شيء جديد كلياً، وهذا أحد الأسباب التي تدفعنا للاستمرار في اكتشاف هذه الأشياء الجديدة التي لم يقم أحد من قبل باستكشافها». يتذكر لامونت أنه قد مرت على سمعه أصواتٌ غريبة جداً عندما كان يستمع إلى التسجيلات من الشعاب المرجانية في إندونيسيا، مثل نخر سمكة الجندي وصوت صرير أسنان سمكة الببغاء وصراخ سمكة الدامسل، وأنه كان يسمع أصوات «ضحك» أيضاً عادةً عند الفجر، ولم يستطع تحديد الحيوانات التي تصدرها.

يخلص لامونت إلى أن: «هناك عنصر ممتع في الاستماع لهذه الأصوات الغامضة». ويضيف: «هناك آفاق مثيرة يمكن اكتشافها في هذا المجال نظراً إلى حداثته».

المحتوى محمي