نجح فريق "سلام لاب" في العثور على مجموعة من الحفريات لسحالي عاشت قبل 37 مليون سنة في محافظة الفيوم المصرية، وبعد الدراسة المكثفة، استطاع الباحثون تسجيل أول حفرية للسحالي عديمة الأطراف، بقيادة الدكتورة "مروة الحارس"، الأستاذة في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، تخصص التشريح المقارن (وهي شعبة من علم الحيوان). ونُشرت الدراسة في 16 فبراير/شباط 2022، في دورية "علم الحفريات الفقارية" (Journal of Vertebrate Paleontology).
قصة الاكتشاف
بدأت القصة عندما انضمت الدكتورة "مروة الحارس" في عام 2017 إلى فريق "سلام لاب" الذي يقوده الدكتور "هشام سلام" أستاذ الحفريات في كلية العلوم بجامعة المنصورة والجامعة الأميركية في القاهرة، والمؤلف الرئيسي في الدراسة. وفي 2018، قررت الحارس النقطة البحثية الخاصة بالبحث عن حفريات في منطقة الفيوم، وسجلتها عام 2019. وبعد سنوات من العمل والبحث، خرج الاكتشاف إلى النور في 2022. وهو عبارة عن اكتشاف حفريات في منخفض الفيوم من عصر الأيوسين المتأخر للحرشفيات (Squamata)، وهي حفريات لثعابين الكوبرا، وأيضاً فقرات السحالي عديمة الأرجل (Legless Squamates)، ويبلغ عمرها 37 مليون سنة.
والحرشفيات هي زواحف لديها حراشف تتكون أثناء التكوين الجنيني، وتضم مجموعة الحرشفيات: الثعابين والسحالي والسحالي الدودية عديمة الأطراف (Amphisbaenia)، وتختلف السحالي الدودية عن العادية في التشريح الداخلي لها. حسب وصف الدكتورة "مروة الحارس".
وعند سؤالها عن العينات، قالت الحارس لـ "بوبيولار ساينس العربية": "اكتشفنا 7 عينات صغيرة جداً، يُقدر حجمها بالميليمترات، وأكبر فقرة فيها ، كانت 9 مم. وتعود هذه الفقرات للسحالي عديمة الأطراف".
وتتابع الحارس: "من ضمن هذه الفقرات السبع، فقرة واحدة جذعية للسحالي الدودية، والتي تتميز بعدة خصائص، منها: أنها تفتقر إلى الشوكة العصبية ومسطحة جداً. وفقرة أخرى جذعية للبروسيرفيس (Procerophis)، وهو الجد الأكبر الأقدم للثعابين الحديثة على الإطلاق، والمقصود بالثعابين الحديثة هي مجموعة الكولوبرويدات (Colubroid)، وهي تمثل 85% من الثعابين التي تعيش اليوم، وتتميز بصغر حجمها وتعتمد على الفك في التغذية، وتتمتع بحركة سريعة ورشيقة مثل الكوبرا."
وفي تصريح خاص لـ "بوبيولار ساينس العربية"، قال الدكتور هشام سلام: "هذا أقدم سجل لحفرية الكوبرا يُسجل في مصر عبر التاريخ، أما السحالي الدودية عديمة الأرجل، فهي أول مرة تُسجل في مصر".
وهناك 5 عينات أخرى، منها 4 فقرات جذعية وفقرة واحدة ذيلية، تعود هذه الفقرات الخمس لثعبان "الرنينوتت" (Renenutet)، وهو أحد أقدم الأسلاف لمجموعة الأحناش. وأشارت الدكتورة مروة إلى أنه قد تم تسجيل الرنينوتت بالفعل في عام 2015، لكن استطاع بحثها تسجيل الفقرات الذيلية للثعبان لأول مرة، وهذا يثري البيانات الخاصة بهذا الحيوان، ما يساعد في بناء شكلٍ أوضح له.
إضافة إلى ذلك، لم يُسجل الرنينوتت حتى الآن إلا في مصر، لكن له شبيه في الهند، يُسمى "ثوماستوفيس" (Thaumastophis)، وينتمي النوعان إلى نفس العائلة.
ما الذي يميز هذا الاكتشاف؟
تخبرنا الآثار الفرعونية بأنّ الثعابين كانت تعيش بين المصريين في الماضي كما هي في الحاضر، حيث تنتشر في المناطق الزراعية أو الصحراوية ويراها المصريون كثيراً، وهناك مَن يهتمون بتربيتها. لذلك، من المهم البحث في ماضيها.
وفي هذا الصدد، قالت الدكتورة مروة لـ "بوبيولار ساينس العربية": "إننا نبحث عن أصول هذه الثعابين، وكيف دخلت مصر، ومن أين جاءت؟ وأقدم وجود لها كان في الهند قبل 54 مليون سنة، ونحن قد سجلنا وجودها في مصر بعد 37 مليون سنة، وهذا البحث يفتح الباب أمام اكتشاف طرق الهجرة التي تتبعتها هذه الثعابين بين آسيا وإفريقيا".
ويرى الدكتور هشام سلام أنّ: "هذا الزمن سبق انقراض جماعي كبير جداً حصل منذ 34 مليون سنة، عند الخط الفاصل بين الأيوسين واللوجوسين، والذي أدى إلى انقراض أكثر من 66 % من الكائنات الحية، وأي قراءة لهذا، يعطينا صورة أوضح للتاريخ الجيولوجي للأحقاب السحيقة، ما يفيدنا في مستقبلنا".
ويُضيف سلام: "أي قراءة للماضي، تفيدنا في استيعاب سلوك الكائنات في الحاضر، والتنبؤ بما يحصل في المستقبل. بما أنّه في تلك الفترة من الزمن، كان الجو شبيهاً بما هو عليه اليوم من ناحية الاحتباس الحراري، فأي دليل يساعد على اتضاح الصورة يوماً بعد يوم عما يمكن حدوثه في المستقبل، إذا استمر الاحتباس الحراري بالشكل الحالي".
اقرأ أيضاً: دليلك الشامل لعلاج لدغة ثعبان
الهجرة والتنقل
بعد فحص ومقارنة العينات بجميع شبيهاتها وأقرانها حول العالم، وجد الفريق البحثي أنّ الشبيه الأكبر موجود في الهند، ما يؤكد هجرة هذه الثعابين بين آسيا وإفريقيا. ويقول الدكتور هشام سلام لـ "بوبيولار ساينس العربية": "هذه الثعابين لا تستطيع العوم لمسافات طويلة أو الطيران، لذلك، لا بد وأنها قد استخدمت جسراً برياً للهجرة أو أنّ التنقل هذا تم عبر آلاف السنين عبر التحرك من جزيرة إلى أخرى حتى وصلت أخيراً إلى إفريقيا".
ويضيف سلام: "إنّ هجرة الكائنات من آسيا إلى إفريقيا في ذلك الزمن السحيق، مُسجلة من عدة أدلة مادية لحفريات الثدييات مثل: القوارض والقردة، لكن هذه أول مرة نسجل هجرة عن طريق استخدام حفريات السحالي والثعابين والحرشفيات".
اقرأ أيضاً: دليل مختصر يخبرك أساسيات الإسعافات الأولية خلال الرحلات
لماذا يبهرنا منخفض الفيوم بالاكتشافات؟
اشتُهرت محافظة الفيوم بالاكتشافات الأحفورية، وهي نفس المنطقة التي عثر فيها الفريق البحثي على حفريات الفقرات السبع، وتعليقًا على هذا، قال الدكتور هشام لـ "بوبيولار ساينس العربية": "الفيوم هي عبارة عن حفرة في القشرة الأرضية، تُسمى منخفض، ووصلت إلى أعماق سحيقة للطبقات التي كانت في زمانها تمثل سطح الأرض، وكانت هذه الكائنات تعيش فيها".
ويُضيف سلام: "هناك العديد من المنخفضات، مثل: منخفض الفيوم والقطارة والواحات البحرية. كلما ازداد عمق الحفرة، ازداد قِدم الطبقات المختلفة. فمثلاً، إذا أردنا البحث عن الديناصورات التي انقرضت منذ 66 مليون سنة، يجب البحث عن حفرة أعمق من الفيوم مثل الواحات البحرية والفيوم والداخلة والخارجة، وللبحث عن حفريات عمرها بين 30 - 40 مليون سنة، فهذه هي الحفرة التي طبقتها توازي الفيوم".
وأوضح سلام أنّ البحث في أعمار طبقات الأرض المختلفة في منخفض الفيوم، لم يكن من اهتماماتهم، فقد تم توثيقها من قبل في دراسات وأبحاث.
أما عن أهداف الدراسة المستقبلية، فقد أوضحت الحارس بأنّ هذا البحث يفتح المجال أمام العديد من الدراسات القادمة حول كيفية هجرة الحيوانات في العصور السحيقة من قارة إلى أخرى، ما يساعد في كشف الستار عن خبايا ماضي كوكبنا وما ميّز بيئة مصر حتى أتت إليها هذه الحيوانات.