تتمتع الثدييات والطيور الحديثة بمزايا عديدة بسبب قدرتها على توليد الحرارة في أجسامها. تمتلك الحيوانات ذات الدم الحار معدلات أيضٍ عالية تسمح لها بأن تكون أكثر نشاطاً من الكائنات التي تعتمد على محيطها لتوفير الدفء لأجسامها، ما يمنحها القدرة على التنقل بشكل أسرع والهجرة لمسافات طويلة والعيش في الأماكن الباردة.
يلقي تقرير نُشر حديثاً في مجلة "نيتشر" الضوء من جديد على لغز طال أمده حول متى طورت الثدييات هذه السمة الحيوية. للمساعدة في حل اللغز الأيضي، درست مجموعة علماء الأحافير تشريح الأذن عند الحيوانات، وتحديداً الأذن الداخلية، والتي يتأثر شكلها بدرجة حرارة جسم الحيوان. فحص الفريق الأذن الداخلية للأنواع الأحفورية والحديثة، وقدّر أن ذوات الدم الحار، أو داخلية الحرارة (Endotherm)، ظهرت منذ نحو 233 مليون سنة خلال العصر الترياسي المتأخر وقبل تطور الثدييات الحقيقية الأولى.
ظهور الثدييات داخلية الحرارة
يقول أمين الثدييات الأحفورية في متحف فيلد للتاريخ الطبيعي في شيكاغو، كينيث أنجيلتشيك: «كان الوقت الذي أصبحت فيه الثدييات وأسلافها داخلية الحرارة أحد أكبر الألغاز التي لم يكن لها جواب في علم الحفريات لفترة طويلة جداً. إنها سمة مميزة للثدييات وتؤثر على العديد من الجوانب الحيوية ووظائف الأعضاء لدينا. لقد تمكنا من تحديد متى تطورت الثدييات الداخلية الحرارة بدقة أكبر بكثير مما كان ممكناً في السابق».
كانت التقديرات السابقة حول توقيت ظهور الثدييات داخلية الحرارة متباينةً إلى حد كبير، وقد استندت على أدلة أحفورية للصفات التي شوهدت في العديد من الحيوانات ذوات الدم الحار مثل النمو السريع أو النشاط الليلي. ولكن هذه السمات ليست بالضرورة "مؤشرات حصرية" على أن الحيوان من ذوي الحرارة الداخلية، كما يقول أنجيلشيك. على سبيل المثال، يمكن أن تساعد القدرة على الحفاظ على حرارة الجسم الأساسية الحيوان على البقاء نشطاً ليلاً عندما لا يكون بمقدوره الحصول على الحرارة من الشمس، ولكن هناك أيضاً العديد من الزواحف والبرمائيات الليلية التي تعيش في المناخات الحارة.
السر في الأذن!
يقول عالم الحفريات في معهد البلازما والاندماج النووي في جامعة لشبونة في البرتغال والمؤلف المشارك في النتائج، ريكاردو أروجو: «نعتقد أن التكيفات المحددة للأذن الداخلية للثدييات، وتحديداً الجزء من الأذن الذي يسمى نظام القناة شبه الدائرية أو القناة الهلالية، توفر إجابة أكثر دقةً وواقعية».
القنوات شبه الدائرية عبارة عن سلسلة من الأنابيب الملتفة المملوءة بسائل يساعد الحيوان على تتبع حركته والموقع المكاني لرأسه، ولهذا الأمر أهمية كبيرة في التنقل والتوازن والتنسيق الحركي. تزداد انسيابية السائل في هذه القنوات مع ارتفاع درجة حرارة الجسم، أي للحفاظ على الحركة والتوازن، يجب أن يكون للقنوات شبه الدائرية للحيوانات ذات الجسم الدافئ شكل وحجم مختلفان يضمن تدفق السائل الرقيق فيها مقارنة بالحيوانات ذات درجات حرارة الجسم الأكثر برودة، والتي تكون سوائل الأذن الداخلية لديها لزجةً أكثر.
يقول أروجو: «يجب أن يكون نظام الأذن الداخلية متكيفاً جيداً وفقاً لدرجة الحرارة التي سيتعرّض لها. فإذا كان على الحيوان الهرب من حيوان مفترسٍ مثلاً ولم يكن نظام الأذن الداخلية لديه يعلم أين مكان الرأس، فسيتم افتراسه حتماً».
يشير وجود القنوات المتكيفة لتلائم درجات الحرارة الدافئة إلى أن الحيوان يمكنه توليد الحرارة الخاصة به. ووفقاً للباحثين، يمكن الاعتماد على الشكل والحجم النسبي للأذن الداخلية للتنبؤ بما إذا كان الحيوان من ذوات الدم الحار أو من ذوات الدم البارد.
معتمداً على هذه المعلومات، شرع فريق البحث في التحقيق في أصول سمة توليد الحرارة الداخلية من خلال فحص الأشعة المقطعية للأذن الداخلية في كل من الجماجم الأحفورية والحديثة. شمل التحليل 341 نوعاً تضمنت 234 نوعاً من الثدييات الحديثة والزواحف والطيور والبرمائيات، بالإضافة إلى 64 نوعاً من عصور ما قبل التاريخ تضمنت أقارب وثيقة الصلة بالثدييات الأولى.
وجد الفريق أن أسلاف الثدييات الأقدم كانت تتمتع بقنوات أذن شبه دائرية طويلة وسميكة تشبه تلك الموجودة في الزواحف والبرمائيات الحديثة ذوات الدم البارد. في المقابل، كانت لدى الثدييات الحديثة ذوات الدم الحار قنوات أدق بكثير وأصغر بالنسبة لحجم أجسامها.
عندما استخدم الفريق قياسات الأذن الداخلية هذه لتقدير درجات حرارة جسم الحيوانات، وجدوا أن تقديراتهم للأنواع الحديثة كانت متوافقة جداً مع بيانات درجة حرارة الجسم المنشورة. واستناداً إلى تقديراتهم لدرجة حرارة أجسام الحيوانات المنقرضة، خلص الفريق إلى أن تطور سمة توليد الحرارة الداخلية حدث على مدار مليون عام، قبل ظهور الثدييات الحقيقية الأولى بنحو 200 مليون سنة تقريباً. يقول أروجو: «كانت وتيرة تطوير الحيوانات لسمة توليد الحرارة داخلياً سريعة بشكل مدهش من الناحية الزمنية الجيولوجية».
ظهرت الحيوانات ذات الدم الحار خلال حدث كارنيك بلوفيال أواخر العصر الترياسي، وهي فترة اتسمت بعدم الاستقرار المناخي وتميزت بدرجات حرارة عالية وهطول أمطار غزيرة. ربما ساعدت القدرة على الحفاظ على ثبات درجة حرارة الجسم أسلاف الثدييات على التكيف مع الاضطرابات في بيئتها كما يقول أنجيلشيك.
يعتقد مؤلفو الدراسة أن ظهور سمة توليد الحرارة الداخلية بين الثدييات مرتبط بالتغيرات الجينية، والتي بدورها أدت إلى تطور العمليات الفيزيولوجية وسمحت للحيوان بأن يصبح بمثابة "مصنع يولد الحرارة باستمرار" وبتطور الفراء للحفاظ على هذه الحرارة الثمينة من التبدد في الهواء المحيط كما يوضح أروجو.
اقرأ أيضاً: ما الذي يمنح الخفافيش مهارتها في الصيد؟
تعد التقنية الجديدة أكثر دقة لتقييم مجموعات الحيوانات من التنبؤ بدرجة حرارة الجسم في الأنواع الفردية. ويعتقد أنجيلشيك إن تحديد ما إذا كانت أنواع معينة من ذوات الدم البارد أو من ذوات الدم الحار بشكل قاطع سيعطي تسلسلاً زمنياً أكثر دقة. بالنسبة للأبحاث المستقبلية، يخطط أنجيلشيك وفريقه لتوسيع بحثهم ليشمل الحيوانات المنقرضة الأخرى. يقول أنجيلشيك: «سيكون من المثير جمع المزيد من العينات، خاصة فيما يتعلق بأصول الثدييات وتطبيق هذا النهج على الحيوانات الأخرى في السجل الأحفوري».
يقول عالم الفسيولوجيا التطورية بجامعة أديلايد في أستراليا والذي لم يشارك في البحث، روجر سيمور: «لقد بحث العلماء كيف تطورت الثدييات لتصبح من ذوات الدم الحار لمدة 60 عاماً على الأقل. يمكن لنتائج الدراسة الجديدة أن تسهم في تقدم أبحاثهم في هذا الصدد».
ويقول سيمور في رسالة بالبريد الإلكتروني: «إن حجم العمل الذي تم للحصول على البيانات وتحليلها هائل، ومجموعة البيانات التي وفرها البحث الجديد ثمينة جداً».
لقد اقترح سيمور وفريقه سابقاً أن معدلات الأيض العالية قد تطورت حتى في السلف المشترك للطيور والثدييات منذ نحو 300 مليون سنة. ويقول إن هناك حاجة إلى مزيد من الأدلة لإثبات أن التغييرات التشريحية في القنوات شبه الدائرية الموصوفة في الدراسة الجديدة تزامنت مع تطور سمة الحرارة الداخلية بشكل كامل، وليس بعد ذلك».
يقول سيمور أخيراً: «إن ربط بنية الأذن الداخلية بالحرارة الداخلية كان بمثابة "كشف مفاجئ". وبالتأكيد، يقدم هذا البحث نهجاً جديداً للبحث في أصل توليد الحرارة الداخلية في الثدييات».