قد يبدو التحليق كقوة خارقة مثل تلك التي نقرأ عنها في قصص الخيال العلمي. ولكن على عكس شخصية «دكتور سترينج» من أفلام شركة «مارفل»، لا يحتاج العلماء إلى التعاويذ لجعل الأجسام تحلّق وللتلاعب بها في الجو. وصف الفيزيائيون من جامعة شيكاغو وجامعة باث في دراسة نُشرت في 22 أبريل/نيسان 2022 في مجلة «مراجعات في الفيزياء إكس» طريقة لتسخير قوة الصوت لجعل كتل من الجسيمات البلاستيكية تطفو وتدور وتتفكك. يمكن أن تساعدنا النتائج التي توصل إليها الباحثون في فهم القوانين الفيزيائية التي تحكم الكيانات الأخرى سريعة الدوران، مثل الثقوب السوداء والنوى الذرية والكويكبات.
التحليق الصوتي للتلاعب بالأجسام
تقول «ميلودي ليم»، المؤلفة الرئيسية للدراسة الجديدة وعالمة فيزياء المواد اللينة التجريبية في جامعة شيكاغو: «يعد التحليق الصوتي طريقة رائعة للتلاعب بالأجسام، لأنه يستخدم شيئاً يشبه إلى حد كبير مكبر الصوت».
كانت ليم وزملاؤها يأملون في تحسين هذا النوع من تكنولوجيا التحليق حتى يتمكنوا من استخدامها لتحريك الأجسام والتلاعب بها دون لمسها. يمكن أن يكون لهذه التكنولوجيا عدداً لا يحصى من التطبيقات المحتملة، إذ يدرس بعض الفيزيائيين إمكانية استخدام التحليق الصوتي كوسيلة لإعادة ترتيب الخلايا يمكن تطبيقها في مجال هندسة الأنسجة.
وضعت ليم وفريقها جسيمات بلاستيكية مستديرة صغيرة لا يتجاوز قطر كل منها مليمتراً واحداً داخل صندوق شفاف. ثم وضعوا مكبر صوت داخل الصندوق لتوليد قوة كافية لجعل الجزيئات تطفو وتتحرك. يمكن أن يولد هذه المكّبر موجات تدعى بالموجات القائمة، وهي موجات صوتية تكون ثابتة (أي أنها لا تتحرك) تشبهها ليم بموجات وتر الكمان المهتز.
حلّقت جسيمات البلاستيك تدريجياً وتجمعت في كتلة دوارة تحت تأثير الموجات الصوتية. (يبلغ قطر الجسيم الواحد نحو 190 ميكرومتراً، وتم تبطيء الفيديو أعلاه بمقدار 100 مرة). المصدر: ميلودي إكس. ليم، برايان فان سيدرز، أنتون سوسلوف وهاينريخ إم. ييغر، مجلة مراجعات في الفيزياء إكس (2022)
تسببت الأمواج الصوتية في ارتداد الخرزات وتجمّعها معاً أثناء تحليقها في الهواء، مكونة طبقة واحدة من الجسيمات الصغيرة في دائرة. تولد الموجات الصوتية في هذا التكوين من الجسيمات المحلّقة قوة جذب ضعيفة (أو قوة تماسُك) بين الجسيمات. تقول ليم: «يمكنك التفكير في هذه القوة على أنها نوع من الغراء اللاصق الذي يربط الجزيئات معاً». عندما قامت ليم وفريقها بتغيير تردد الصوت الصادر عن المكبر، تأرجحت الكتلة الدائرية مثل طوّافة على سطح البحر ثم بدأت بالدوران.
اقرأ أيضاً: نحن محاطون بها في كل مكان: ما هي الموجات الصوتية؟
محاكاة لسلوك الأجرام السماوية
تخيل أنك تلعب لعبة أرجوحة الكرسي الدوارة في الملاهي، وبدأت الأرجوحة بالتسارع. كلما زادت سرعة الدوران، زادت شدة قوة الطرد المركزي التي تشعر بها، ما يجعلك تتحرك بعيداً عن مركز الدوران بدلاً من أن تبقى معلّقاً في مكانك. توضح ليم أن هذا ما يحدث للقرص العائم من الجسيمات البلاستيكية بشكل أساسي. لكن في هذه الحالة، لا توجد حبال تربط الجزيئات.
تقول ليم إنه مع الاستمرار في تغيير تردد الموجات الصوتية، «تصل سرعة دوران الجزيئات إلى قيمة عظمى وتصبح قوة الدفع أكبر من القوة التي تربط الجسيمات ببعضها بعضاً، ما يتسبب بتغيّر شكل كتلة الجزيئات بأكملها».
تُمزّق قوة الطرد المركزي في هذه السرعات العالية كتلة الجسيمات وتقوم بتمديدها لتأخذ شكل كتلة أطول وأكثر نحافة، أو تفكيكها لتشكيل كتل أصغر. ما يثير الاهتمام أن هذه الكتل تتجمّع في النهاية مرة أخرى معاً لتشكل قرصاً دائرياً واحداً.
يتشوه التكتل فجأة ليأخذ شكلاً بيضاوياً بعد الوصول إلى سرعة دوران كافية. ويؤدي الدوران في النهاية إلى تمزيق التكتل، لكن القطع ترتبط من جديد لاحقاً. (تم تبطيء الفيديو بمقدار 60 مرة). المصدر: ميلودي إكس. ليم، برايان فان سيدرز، أنتون سوسلوف وهاينريخ إم. ييغر، مجلة مراجعات في الفيزياء إكس (2022)
تقول ليم: «ما تحققنا منه في هذه التجربة هو ما مدى ميل [القرص الدوار] لتجميع الجزيئات بالقرب من المركز بدلاً من جعلها بعيدة عنه. وتضيف أن الجسيمات تميل لأن تتجمّع في أقراص مضغوطة لتقليل المساحة السطحية، تماماً مثل الجزيئات في قطرات الماء. تقول ليم: «تميل الجزيئات البلاستيكية لأن تتجنّب اتخاذ الأشكال المستطيلة والممدودة، إذ أنه عندها، سيكون هناك جسيمات بعيدة عن المركز».
تقول ليم إن الكويكبات قد تخضع لعمليات مماثلة. إذ أن تلك الموجودة في حزام الكويكبات عبارة عن كتل من الصخور المرتبطة ببعضها البعض بسبب الجاذبية والتي يتم تسخينها بحرارة الشمس. تقول ليم: «تنص إحدى الفرضيات على أن أشعة الشمس تضرب جانباً واحداً من الكويكب، ما يجعله أكثر سخونة من الجانب الذي لا يتعرض لأشعة الشمس». تتسبب الحرارة في إصدار الغازات من الصخور التي تواجه الشمس. وتقول ليم: «يشبه الأمر تشغيل دافع غاز صغير معلّق فقط بجانب واحد من الكويكب»، ما يجعل الكويكب يدور تدريجياً.
على غرار الجسيمات الصغيرة في تجربة ليم، يصبح دوران الكويكبات وفق هذه الفرضية أسرع وأسرع بمرور الوقت، ما قد يتسبب في تغيير شكل تكوين الكويكبات ككل. لكن يجعل الحجم الهائل للكويكبات وبطء تسخينها بسبب بعدها عن الشمس هذه الظاهرة صعبة الدراسة.
اقرأ أيضاً: بدأ وقود مركبة ناسا الفضائية المتنقلة بين الكويكبات ينفد بعد 11 سنة من العمل
تقول ليم: «تشير القياسات التي تم إجراؤها لهذه الظاهرة في حزام الكويكبات إلى أن الوقت اللازم لمضاعفة سرعة دوران الكويكبات هو في حدود 100000 عام». وتضيف أن قوة الدوران ستستغرق وقتاً طويلاً حتى تغيّر شكل الكويكب بشكل ملحوظ.
تقول ليم إن نظام التحليق الصوتي الصغير الذي طوّرته مجموعة الباحثين يمكن أن يتم استخدامه لمحاكاة التفاعلات الفيزيائية التي تحدث بين الكويكبات والأجسام الدوارة الأخرى مثل الثقوب السوداء والنوى الذرية بهدف فهم العمليات التي قد تكون صعبة الدراسة. وتضيف أنها فُتنَت أيضاً بجمال هذه الظاهرة بمعزل عن التطبيقات العملية المحتملة لها.
تقول ليم: «لقد بدأت أدرك أنه عند تجميع العديد من الجسيمات المحلّقة معاً، فإنها تشكل هذه البنى المثيرة للاهتمام بصرياً للغاية»، وتضيف: «تقوم هذه البنى في جهاز التحليق الصوتي بالكثير من الأشياء الرائعة كالدوران والانقسام والاندماج لتكوين أقراص أكبر. لقد كانت هذه التجربة جميلة حقاً».