تؤثر قوة الجاذبية على كل شيء في محيطنا. إنها القوة التي تبقي الأرض في مدارها حول الشمس، وتمنع الأشجار من النمو إلى ما لا نهاية، وتحافظ على الطعام في الأطباق. إنها أيضاً جزء لا يتجزأ من فهمنا للكون.
ولكن ما مدى قوة الجاذبية؟ نعلم أن الجاذبية تؤثر بنفس الطريقة على الأجسام سواء كانت خفيفة كالريشة أو ثقيلة كالصخور، ولكن بخلاف ذلك، وعلى الرغم من دراسة الجاذبية في الكون لعدة قرون، لا يمتلك العلماء إجابة دقيقة عن هذا السؤال.
وفقاً لقانون الجذب العام لنيوتن، فإن قوة الجاذبية التي تجذب جسمين (أو جسيمات) إلى بعضها بعضاً تزداد شدة كلما زادت كتلة هذه الأجسام وكلما اقتربت من بعضها بعضاً أكثر. على سبيل المثال، الجاذبية بين ريشتين تفصل بينهما 5 بوصات أضعف من الجاذبية بين تفاحتين على نفس المسافة الفاصلة بينهما. ومع ذلك، فإن الحساب الدقيق لقوة الجاذبية يعتمد على متغير عام يسمى ثابت الجاذبية، والذي يُعبر عنه بحرف (G) في المعادلات.
اقرأ أيضاً: هل تحطم النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات؟
لا يعرف الفيزيائيون بالضبط القيمة التي يجب تعيينها لهذا الثابت، لكن نهجاً جديداً من سويسرا يمكن أن يوفر أفكاراً جديدة حول كيفية اختبار الجاذبية بشكل أفضل.
يقول الفيزيائي في مختبر القياس الفيزيائي في المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا، ستيفان شلامينجر: «هذه الثوابت الأساسية مضمنة بشكل أساسي في نسيج الكون. يمكننا نحن البشر إجراء تجارب لمعرفة قيمتها، لكننا لن نعرف أبداً قيمتها الحقيقية. يمكننا الاقتراب أكثر فأكثر من الحقيقة، ويمكن أن تتحسّن التجارب أكثر ونقترب من القيمة الحقيقية في النهاية».
لماذا يصعب قياس ثابت الجاذبية؟
يقول شلامينجر، والذي يرأس مجموعة عمل الاتحاد الدولي للفيزياء البحتة والتطبيقية حول ثابت الجاذبية لنيوتن: «على عكس العد، فإن القياس غير دقيق بطبيعته».
ويضيف: «إذا أخذنا شريط قياس وقمنا بقياس طول طاولة، فلنفترض أن طولها يقع بين أصغر وحدتي قياس على الشريط. عليك الآن استخدام نظرك ومعرفة مكان الرقم بدقة. ربما يمكنك الاستعانة بمجهر أو شيء من هذا القبيل، وكلما كانت تقنية القياس أكثر تقدماً، كلما تضاءل الارتياب أكثر وأكثر. لكن هناك دائماً ارتياباً».
هذا هو الحال أيضاً مع ثابت الجاذبية كما يقول شلامينجر، لأن الباحثين سيقيسون دائماً القوة بين جسمين بشكلٍ تقريبي، لذلك يتعين عليهم تضمين درجة معينة من الارتياب في نتائجهم.
علاوة على ذلك، فإن قوة الجاذبية التي يمكن اختبارها بين الأجسام في المختبر ستكون دائماً محدودة بحجم المنشأة، ما يزيد من صعوبة قياس الجاذبية بين كتل مختلفة بأجهزة متطورة.
أخيراً، يمكن دائماً أن يكون هناك تداخل في القراءات كما يقول أستاذ الميكانيكا والديناميكيات التجريبية في المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا في زيوريخ، يورج دوال، والذي أجرى تجربة جديدة لإعادة تحديد ثابت الجاذبية. وذلك لأن أيّ جسم له كتلة يمارس قوة جاذبية على أي شيء آخر له كتلة في جواره، لذلك يجب أن يكون المجربون قادرين على إزالة التأثير الخارجي لجاذبية الأرض ولجاذبيتهم الخاصة وجميع تأثيرات الأجسام الأخرى التي لها وزن من نتائج الاختبار.
اقرأ أيضاً: الجاذبية تؤتي ثمارها في العمل ولكن هناك حيلة لتعديل ذلك
ما هي التجارب التي أجراها الفيزيائيون؟
في عام 1798، وضع هنري كافنديش معياراً للتجارب المعملية لقياس ثابت الجاذبية باستخدام تقنية تسمى توازن الالتواء (torsion balance).
تعتمد هذه التقنية على نوع من البندول المعدل. يتم تعليق قضيب بكتلتين اختباريتين في كلا طرفيه من المنتصف بواسطة سلك رفيع يتدلى للأسفل. نظراً لأن القضيب أفقي بالنسبة لحقل الجاذبية الأرضية، تمكن كافنديش من إزالة تأثير جزءٍ كبير من قوى الجاذبية الأرضية من القياسات.
استخدم كافنديش كرتين صغيرتين من الرصاص قطرهما بوصتان ككتل اختبار. ثم أضاف مجموعة ثانية من الكتل عبارة عن كراتٍ من الرصاص أكبر وبقطر 12 بوصة، وتم تعليقها بشكلٍ منفصل عن كتل الاختبار ولكن بالقرب من بعضها بعضاً. تُسمى هذه الكرات كتل "المصدر". تؤدي قوة السحب لكرات الرصاص الكبيرة هذه إلى التواء السلك. من خلال زاوية الالتواء، تمكن كافنديش ومن تلاه من حساب قوة الجاذبية المؤثرة بين كتل الاختبار وكتل المصدر. ونظراً لمعرفتهم بكتلة كل جسم، كانوا قادرين على حساب ثابت الجاذبية.
استخدم المجربون أساليب مماثلة في القرون التي تلت كافنديش، لكنهم لم يجدوا دائماً نفس القيمة لثابت الجاذبية أو نفس نطاق الارتياب، كما يقول شلامينجر. كان التباين في الارتياب في الحسابات "لغزاً كبيراً".
لذلك استمر علماء الفيزياء في ابتكار طرق جديدة لقياس ثابت الجاذبية على أمل أن يتمكنوا يوماً ما من الوصول إلى نتيجة أكثر دقة.
اقرأ أيضاً: الساعات الذرية الأكثر دقة تثبت صحة نظرية النسبية العامة لأينشتاين مرة أخرى
هذا الشهر، نشر فريق من سويسرا بقيادة دوال تقنية جديدة لقياس الجاذبية في مجلة "نيتشر فيزيكس"، يمكنها عزل ضوضاء الجاذبية من البيئة المحيطة وتقديم نتائج أكثر دقة.
تضمن الإعداد التجريبي عارضتين بطول متر معلقتين في غرف مفرغة من الهواء. جعل الباحثون أحد العوارض يهتز بتردد معين، ونتيجة لقوة الجاذبية بين العارضتين، بدأت العارضة الأخرى بالاهتزاز أيضاً. اعتماداً على مستشعرات ليزرية، قاس الفريق حركة العارضتين ثم حسبوا ثابت الجاذبية بناءً على تأثير أحدهما على الآخر.
أعطت النتائج الأولية قيمة لثابت الجاذبية أعلى بنحو 2.2% من القيمة الرسمية التي أوصت بها لجنة البيانات للعلوم والتكنولوجيا (6.67430x10 -11 م3.كغ-1.ثا-2)، وتحمل نطاقاً واسعاً نسبياً من الارتياب.
اقرأ أيضاً: ماذا سيحدث لك إن سقطت في ثقب أسود؟
يقول دول: «تتوافق نتائجنا بشكل أو بآخر مع القيم التجريبية السابقة لثابت الجاذبية. أي أن قانون نيوتن ينطبق أيضاً على تجربتنا على الرغم من أن نيوتن لم يفكر في موقف تجريبي مثل التي قدمناه. سنحرص على أن تكون قياساتنا أكثر دقة في المستقبل، ولكن لدينا قياساً جديداً في الوقت الحالي».
يقول شلامينجر، والذي لم يشارك في البحث الجديد، إنه جهد تعاوني يسير بخطى بطيئة ولكنه عالمي. ويضيف: «من النادر جداً أن ترى بحثاً عن ثابت الجاذبية، لذلك على الرغم من أن نتائجهم قد لا تكون القياس الأكثر دقة لثابت الجاذبية، فإنه من المثير حقاً أن يكون لديك نهج جديد وقياس آخر لأحد أكثر الثوابت الرياضية أهمية في الكون».