بعد يومٍ حافل من صيد الفرائس أو الاستعراض بهدف التزاوج، تعود العناكب القافزة عادة إلى شباكها الحريرية في الليل. تقضي أغلب هذه العناكب الصغيرة فترات المساء في شباكها، ولكن وجدت دانييلا روسلر (Daniela Rößler) عالمة البيئات السلوكية والتطورية بالصدفة نوعاً من العناكب يتبع سلوكاً ليلياً مذهلاً، وهو عنكبوت قافز يتدلى نائماً من خيط حريري رفيع بأرجل مطوية تجاه جسمه المنثني.
قالت روسلر، والتي تدرس العناكب القافزة في جامعة كوناستانس في ألمانيا في رسالة عبر البريد الإلكتروني لموقع بوبيولار ساينس (العلوم للعموم): "لم يخطر على بالي أبداً أن هذه العناكب تفعل أي شيء آخر سوى الجلوس في شباكها الحريرية في الليل"، وأضافت: "كان مذهلاً بحق إيجادها معلّقة في مكان مكشوف بهذه الطريقة".
العناكب تمر بمرحلة نوم حركة العين السريعة
منحت رؤية العناكب في هذه الوضعية التي تكون فيها معرضة للخطر روسلر لمحة نادرة وواضحة عن هذه الكائنات خلال الفترات التي تكون فيها غير نشطة. نشر فريق روسلر في 8 أغسطس/آب 2022 في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم مقاطع فيديو لنوع إيفارتشا أركواتا تُبيّن أن هذه العناكب القافزة تمر بمرحلة نوم حركة العين السريعة.
كانت أجسام هذه العناكب تتلوّى وتهتز أحياناً خلال نومها وهي متدلية رأساً على عقب. وكانت أطرافها تنثني أحياناً أو تتمدد. يقول بول شامبل (Paul Shamble)، المؤلف المشارك للورقة الجديدة وعضو سابق في زمالة جون هارفارد المرموقة للعلوم والذي يدرس قدرات العناكب القافزة الإدراكية إن حركات هذه العناكب غير المنتظمة تشبه إلى حد ما تلك التي تقوم بها القطط أو الكلاب النائمة.
يضيف شامبل: "كانت بعض التشنجّات صغيرة للغاية، بينما كان بعضها الآخر كبيراً. وهو أمر نلاحظه عندما ينام البشر". يقول شامبل إن هذه السلوكيات التي تحدث خلال النوم بالتحديد تميّز مرحلة النوم التي تدعى مرحلة نوم حركة العين السريعة، والتي ترتبط بتطور الدماغ وعمليات المعالجة العاطفية لدى البشر، كما أنها المرحلة التي تبدأ فيها الأحلام.
تتميّز العناكب القافزة بأنها كائنات بصرية للغاية، وتمتلك مجموعة من العيون التي يمكن أن تتحسس الألوان المختلفة أيضاً. وعلى عكس معظم مفصليات الأرجل الأخرى التي تعيش على البر، تمتلك العناكب القافزة عضلات تتحكّم في شبكية العين وتحرّكها. يشرح شامبل قائلاً إن الفريق قام بتسجيل مقاطع فيديو للعناكب الصغيرة التي تفقس من بيوضها، والتي تمتلك هياكل عظمية خارجية واضحة مباشرة بعد خروجها من البيوض. يقول شامبل: "يمكنك رؤيتها تحرّك أعينها بوضوح".
تجربة رصد العناكب في أثناء الليل
استخدم الباحثون بعد ذلك كاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء لرصد العناكب خلال الليل. ووثّقوا "تلك اللحظات المذهلة" التي تحرّكت فيها خلال نومها في تسجيلات الفيديو، حسب تعبير شامبل. تقول روسلر إنه على الرغم من أنه تم إجراء أرصاد أولية تبين أن العقارب تدخل في حالات شبيهة بالنوم، فإن النتائج الجديدة تمنح العلماء معلومات جديدة عن قدرة العناكب ومفصليات الأرجل على الإدراك.
قالت روسلر في رسالة البريد الإلكتروني: "إنني متحمّسة لاختبار بعض الفرضيات الأساسية حول مرحلة نوم حركة العين السريعة في العناكب القافزة"، وأضافت: "ما الذي سيحصل إذا حرمنا هذه العناكب من النوم؟ هل سيؤثّر ذلك على لياقتها أو قدرتها على الإدراك؟"
تقول ليسا تايلر (Lisa Taylor)، خبيرة العناكب القافزة في جامعة فلوريدا والتي لم تشارك في البحث الجديد إنها مهتمة أيضاً باكتشاف تأثير النوم منخفض الجودة خلال الليل على قدرة العناكب على تشكيل الذاكرة خلال النهار. تقول تايلر: "لا أقصد تشبيه العناكب بالبشر، لكن نعلم جميعنا أن انخفاض جودة النوم في الليل يؤثّر على قدراتنا الإدراكية خلال النهار"، وتضيف: "بالنسبة لهذه العناكب، فالذاكرة والقدرة على التعلّم أمران ضروريان للغاية لأنها حيوانات مفترسة. ويجب عليها تذكّر التجارب السيئة التي خاضتها والتي تتعلق بالمواد السامة والفرائس الخطيرة".
قدرة مذهلة على معالجة البيانات تبرر قدرة العناكب على الحلم
تستطيع العناكب القافزة أن تجمّع وتعالج كمية مذهلة من المعلومات الحسية قياساً بحجم أدمغتها، والتي لا تتجاوز حجم بذرة الخشخاش. تقول تايلر: "أفكّر كثيراً بالطريقة التي تعالج فيها هذه العناكب المعلومات والطريقة التي تشكّل فيها الذاكرة"، وتضيف: "لذلك في هذا السياق، فالفكرة التي تنص على أن العناكب تنام وتمر في مرحلة حركة العين السريعة في شباكها مثيرة للاهتمام بحق".
Too wild you think? So did we. We followed up anyhow. Luckily, fresh spiderlings are translucent during the first week, giving us the unique opportunity to check out their retinas (they can’t move their “eyes”, but their retinas, which is extra cool). 3/7 pic.twitter.com/kAWLszJ9y2
— Dr. Daniela Rößler 🌎 (@RoesslerDaniela) August 8, 2022
يقول شامبل إنه من الطبيعي أن يفكّر العلماء بما إذا كانت العناكب تحلم أيضاً. إذ يقول: "لن أتفاجأ إذا كانت هذه العناكب تحلم، وأعتقد أنها تحلم بالفعل"، ويضيف: "أعتقد أن هذا أمر رائع ومثير حقاً لأنه لا يدفعك إلى النظر إلى هذه الحيوانات بشكل مختلف فحسب، بل يجعلك تفكّر بتشكّل الأحلام في الدماغ بطريقة مختلفة".
مع ذلك، يعترف شامبل بأن الفريق يحتاج للقيام بالكثير من البحث العلمي لتحديد ما إذا كانت هذه العناكب تحلم أو حتى تنام كما يفعل البشر. إذ يقول: "يتم تحديد حالة النوم، كما ننظر إليها حالياً كحالة أشبه ما تكون لفترة من الراحة، في المستوى الحيوي العصبي والجزيئي"، ويضيف: "لا نعلم كيفية تحديد مرحلة النوم بناءً على هذه المعايير في العناكب".
يستطيع الباحثون إجراء اختبارات رصدية أخرى يمكن أن تكشف ما إذا كانت العناكب القافزة تنام بالفعل. على سبيل المثال، يستطيع كل من شامبل وروسلر "إيقاظ" العناكب من هذه الحالة الشبيهة بالنوم التي تمر بها باستخدام أضواء وامضة ثم توقيت استجاباتها لملاحظة سرعة استجابتها للتنبيهات. مع ذلك، تشير الوضعيات الجسدية التي تم توثيقها إلى أن العناكب كانت تمر بحالة من حالات النوم. خلال العقدين المنصرمين، تم إجراء عدد من الأبحاث لتحديد ما إذا كانت الأنواع الحيوانية الأخرى غير البشر والرئيسيات تدخل في حالات النوم أو الحالات الشبيهة بالنوم. ثبت من قبل أن الزواحف تمر بمرحلة شبيهة بالنوم. وفي عام 2021، وثّق علماء الأحياء أخطبوطات تدخل في مرحلة قد تكون مرحلة تشكّل الأحلام.
جوانب متشابهة للنوم في الأنواع المختلفة
قال ديفيد شيل (David Scheel)، عالم الأحياء البحرية في جامعة المحيط الهادئ في ألاسكا والذي وثّق رأسيات الأرجل "الناعسة" في رسالة عبر البريد الإلكتروني: "إن تطبيق [تعريف نوم حركة العين السريعة الذي يمر به البشر] على الحيوانات غير الفقارية بشكل مباشر قد لا يكون صحيحاً"، وأضاف: "لكن هناك الكثير من الجوانب المتشابهة للنوم في الأنواع المختلفة. ويبدو أن هذا تلميح مثير للاهتمام يساعدنا على فهم تطوّر النوم ووظيفته".
على الرغم من أن العناكب القافزة لا تشبه البشر أبداً، فإن سلوكها يمكن أن يساعدنا على فهم نوم البشر، ما يمنح علماء الأحياء معلومات عن أصول النوم الذي يعتبر ضرورياً للغاية للبقاء. تقول روسلر إن دراسة الأنواع البعيدة عن بعضها، من العناكب إلى رأسيات الأرجل إلى البشر، يمكن أن تكشف وجود أنماط وروابط تطورية.
تقول روسلر: "في حين أن الباحثين يميلون إلى البحث عن الكائنات التي تمر بمرحلة نوم حركة العين السريعة وتلك التي لا تمر فيها، فإن اكتشاف أن العناكب تمر بهذه المرحلة من النوم يشير إلى أن هذه الميزة قد تكون موجودة لدى جميع الكائنات، وإلى أنها يجب أن تؤدي نفس الوظائف أيضاً". تقول روسلر إنه بتوسيع نطاق البحث، "من المرجح أن نكتشف ظاهرة تشبه نوم حركة العين السريعة في عدد كبير من الحيوانات الأخرى أيضاً".