ملخص: اكتشف العلماء في دراسة جديدة أن البكتيريا والفطريات المجهرية الحية تقطع مسافات تزيد على 1931 كم عبر الرياح في مناطق يبلغ ارتفاعها نحو 3 كيلومترات. قد تكون للنتائج الجديدة تبعات على صحة البشر وربما ستساعد على تفسير الانتشار المستمر لمسببات الأمراض المقاومة للأدوية. نسبة مسببات الأمراض من هذه الكائنات الحية مقلقة وغير متوقعة، وتوصل الباحثون في تحليلهم لميكروبات في اليابان إلى أنها نشأت في شمال شرق آسيا وقطعت مسافات كبيرة على ارتفاعات عالية، ثم عامت تجاه سطح الأرض، ما يعني أنها قد تصل إلى المحيط المباشر للبشر. يعلم العلماء بالفعل أن الجسيمات التي تحملها الرياح وتنقلها مسافات كبيرة قد تتسبب بمشكلات صحية للأشخاص الذين يعيشون في مناطق بعيدة عن منشأ هذه الجسيمات، فالرياح في الصحراء الإفريقية ترتبط بإصابات الربو في مناطق البحر الكاريبي، حيث تستطيع هذه الميكروبات تحمّل الظروف القاسية للمناطق المرتفعة في الغلاف الجوي، وهذا مثير للاهتمام بالنسبة للعلماء، الذين سيتكنون من دراسة الميكروبات في الغلاف الجوي لتتبع الحالة الصحية عالمياً.
تشير دراسة جديدة إلى وجود مسار مخفي على مرأى من الجميع للميكروبات في الغلاف الجوي بين السحب البيضاء الكثيفة. وفقاً لبحث نشرته مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS) بتاريخ 9 سبتمبر/أيلول 2024، تقطع مجموعة من البكتيريا والفطريات المجهرية الحية مسافة تزيد على 1931 كم بين عدة مواقع، منتقلة عبر الرياح على ارتفاع نحو 3 كيلومترات عن سطح الأرض.
قد تكون لهذه النتائج آثار في صحة الإنسان، كما أنها قد تساعد على تفسير الانتشار المستمر للجينات المقاومة للأدوية بين مسببات الأمراض في مختلف أنحاء العالم. وفقاً للبحث الجديد، قد يكون عدد غير متوقع ومقلق من هذه الميكروبات التي تنتشر في مناطق مرتفعة من مسببات الأمراض، كما أن بعضها يتمتّع بمقاومة للعديد من المضادات الحيوية.
اقرأ ايضاً: مركبة بيرسيفيرنس التابعة لوكالة ناسا تبحث عن الميكروبات على المريخ
أصناف ميكروبية تعيش على ارتفاعات عالية
يقول المتخصص في علم البيئة الحاسوبي والأستاذ الباحث وقائد مجموعة المناخ والصحة في معهد برشلونة للصحة العالمية والمؤلف الرئيسي للدراسة، خافيير رودو: "لم نتوقع أن نكتشف هذه الميكروبات"، ويضيف قائلاً إن "هذا الاكتشاف هو اكتشاف لتنوّع غير مسبوق من الأصناف الميكروبية على ارتفاعات [أكبر بكثير من ارتفاع طبقة الحدود الكوكبية]".
حلل رودو وزملاؤه عينات مأخوذة من 10 رحلات مختلفة فوق اليابان لتحديد 266 جنساً من الفطريات و305 أجناس من البكتيريا، وهو يقول إن هذه الأجناس تشمل ما يزيد على 2,000 نوع من الفطريات والبكتيريا على الأرجح. توصّل الباحثون بناءً على تقييمهم للتيارات الهوائية والمركّبات الشحيحة الأخرى في العينات إلى أن هذه الميكروبات نشأت في المناطق الزراعية في شمال شرق آسيا وانتقلت مسافة 1931 كيلومتراً تقريباً عبر الغلاف الجوي إلى المجال الجوي الياباني، حيث عامت ببطء نحو سطح الأرض. عثر الباحثون على العديد من الميكروبات التي اكتشفوها على ارتفاعات كبيرة في مناطق بارتفاعات أخفض أيضاً، ما يعني أن البكتيريا والفطريات تستطيع الانتقال إلى الأوساط المحيطة مباشرة بالبشر.
"لم نكن نتوق إلى اكتشاف هذه الميكروبات".
انتقال ممكن لميكروبات ممرضة
ليست الميكروبات جميعها ضارة، لكن الجدير بالذكر أن مسببات الأمراض المعروفة بأنها تتسبب بأمراض للإنسان في سياق التعرض الملائم مثّلت أكثر من ثلث الكائنات الحية التي جمعها الباحثون وكشفوا أجناسها في الدراسة الجديدة. اكتشف العلماء أيضاً أن بعض الميكروبات على الأقل التي نجت من رحلتها الجوية القاسية يتمتع بمقاومة لمضادات حيوية متعددة. تمكن الباحثون من استزراع عدد من هذه الجراثيم وإنماء مستعمراتها في أطباق بتري. تتمتع بعض هذه المستعمرات بمقاومة لأكثر من مضاد ميكروبي واحد.
يؤكد رودو أن النتائج الجديدة لا تثبت أن هذه الميكروبات الجوّالة تتسبب بالأمراض للبشر وأنها ستتسبب بجائحة جديدة؛ إذ يقول: "لم نلحظ أن البشر في مختلف أنحاء العالم يصابون بالأمراض المجهولة المصدر، ما يدفعنا للاعتقاد بأن أغلبية الأجهزة المناعية التي تتمتّع بصحة جيدة قادرة على تحمّل [هذا الحمل الجرثومي المحمول بالجو]. لا تشير نتائجنا إلى أن المناطق البعيدة التي تنتشر فيها هذه الميكروبات ستمثّل منشأ جائحات جديدة".
مع ذلك، تشير الدراسة إلى أن النقل الجوي للميكروبات هو ظاهرة تستحق الاهتمام، خاصة عندما يتعلق الأمر بفهم الازدياد المقلق في مقاومة مضادات الميكروبات. يقول رودو: "الواضح هو أن هذا التنوع البيولوجي ينتشر عبر مسافات كبيرة. بالطبع، إذا تمتّعت الجراثيم المنتشرة بجينات مقاومة للأدوية، فهذا يعني أن هذه الجينات ستدخل إلى مجتمع جديد، ما قد يكون مثيراً للقلق".
اقرأ أيضاً: باحثون يطوّرون علاجاً جديداً لبعض أنواع البكتيريا المقاومة للأدوية
ازدياد مقلق لأنواع الميكروبات المقاومة للأدوية
يعلم العلماء أن الجسيمات التي تحملها الرياح وتنقلها مسافات كبيرة يمكن أن تتسبب بمشكلات صحية للأشخاص الذين يعيشون في مناطق بعيدة عن مصدر هذا التلوث. على سبيل المثال، كشفت الأبحاث ارتباطاً بين عواصف الغبار في الصحراء الإفريقية وحالات الإصابة بالربو في منطقة البحر الكاريبي. مع ذلك، لم يدرس العلماء المجتمع الحيوي الذي يقع على ارتفاع آلاف الأمتار فوق سطح الأرض وتأثيراته في الصحة العالمية بما يكفي.
يشير بعض الدراسات إلى وجود ارتباط بين تفشي مرض التهاب السحايا الدماغية عبر المحيط الأطلسي وعواصف الغبار نفسها البعيدة عن هذه المنطقة. وفقاً لبعض التحليلات، هناك أيضاً ارتباط بين حمى الوادي، وهي مرض يتسبب به فطر منتشر في جنوب غرب الولايات المتحدة، وعواصف الغبار. أشارت الأبحاث السابقة التي أجراها رودو وآخرون إلى أن حالات تفشي داء كاواساكي الغامض قد يرتبط بتيارات الرياح. ربما تنقل الرياح أيضاً مسببات الأمراض النباتية مسافات كبيرة، لكن يعتقد العلماء عموماً أن أغلبية الكائنات الحية الدقيقة لا تستطيع قطع هذه المسافات الكبيرة والبقاء على قيد الحياة. مع ذلك، يشير البحث الجديد إلى أن هذه الكائنات قادرة على ذلك.
يقول الأستاذ المشارك في الصحة البيئية وهندسة السلامة في جامعة بن ستيت، جيريمي غيرناند، الذي لم يشارك في البحث الجديد: "بيّن مؤلفو الدراسة الجديدة أن هناك عدداً كبيراً للغاية من الأنواع ينتشر في هذه المناطق"، وهذا اكتشاف جديد. الظروف قاسية على ارتفاع 3 كيلومترات عن سطح الأرض؛ إذ إن هذه المناطق باردة وغنية بالإشعاع الشمسي، كما أنها تشهد تفاوتات عديدة في درجة الحرارة والرطوبة. يقول غيرناند: "تستطيع هذه البكتيريا والفطريات البقاء على قيد الحياة في هذه الظروف. وهذا أمر مثير للاهتمام للغاية".
الميكروبات يمكنها البقاء في ظروف قاسية جداً
مع ذلك، فهو يشارك رودو الرأي فيما يتعلق بضرورة توخّي الحذر في تأويل النتائج الجديدة وتأثيرها في خطر إصابة البشر بالأمراض. الجرعة عامل مهم عندما يتعلق الأمر بمسببات الأمراض. يقول غيرناند: "نعلم الكثير عن الكمية الآمنة من البكتيريا غير المرغوب فيها في الطعام أو الماء"، لكن في المقابل، "لا نستطيع الحصول على هذا النوع من المعلومات إلا نادراً عندما يتعلق الأمر بمسببات الأمراض القابلة للاستنشاق". تستطيع الأجهزة المناعية التي تتمتع بصحة جيدة التعامل مع مسببات الأمراض على نحو إفرادي عموماً، ففي النهاية، الهواء الذي نتنفسه عادة ليس خالياً من الملوثات على الإطلاق. لم تكشف الدراسة الجديدة عن تراكيز مسببات الأمراض التي تنتقل عبر الغلاف الجوي، وهي معلومات يأمل غيرناند أن تتوصل إليها دراسات المتابعة.
أحد العيوب الأخرى في الدراسة الجديدة هي أنها فحصت العينات من مكان واحد في نقاط زمنية قليلة فقط. يقول غيرناند: "لا تمنحنا الدراسة الجديدة الكثير من المعلومات حول مدى اتساق هذه التعرّضات في مناطق أخرى أو في أوقات أخرى من العام"، مع ذلك، فهو يعتقد أن "هذه التعرضات تحدث في كل مكان"، وذلك بناءً على أبحاثه الخاصة في الانتقال بين القاري للتلوث بالجسيمات.
اقرأ أيضاً: مضاد حيوي قديم قد يمثّل أداة جديدة لمكافحة البكتيريا المقاومة للأدوية
لكن هناك جانباً مشرقاً، وهو أن الغلاف الجوي قد يمثّل مكاناً جديداً يمكن تتبع الصحة العالمية بدراسته. بيّنت جائحة كوفيد-19 أهمية أنظمة الإنذار المبكر مثل أنظمة تتبع مياه الصرف الصحي في كشف المعلومات عن الأمراض والاستعداد لانتشارها والاستجابة لها. يشير رودو إلى أن رحلات جمع عينات الهواء قد تصبح طريقة مفيدة لتقييم التعرض وخطر الإصابة بالأمراض مع إجراء المزيد من الأبحاث باستخدامها.