حدث انفجار في فوهة البركان تحت المائية الضخمة التي تقبع تحت جزيرتَيّ هونغا تونغا وهونغا هاباي في دولة تونغا جنوب المحيط الهادئ بتاريخ 15 يناير/ كانون الثاني 2022. أطلق الثوران البركاني الغاز والرماد بارتفاع نحو 58 كيلومتراً وصولاً إلى طبقة الميزوسفير (المتكور الأوسط) من الغلاف الجوي؛ ما يجعل أعمدة الدخان هذه الأعلى على الإطلاق. تسبب أقوى انفجار حدث على الأرض في التاريخ الحديث بتشكّل موجة تسونامي وصلت إلى البيرو وانفجاراً صوتياً وصل دويّه إلى ولاية ألاسكا الأميركية.
إعادة تشكيل قاع البحر
ويبيّن بحث جديد أن الكمية الكبيرة من الرماد البركاني والغبار والزجاج التي غطست مجدداً في الماء أعادت تشكيل قاع البحر بطريقة دراماتيكية. أعاد العلماء إنشاء الأحداث التي وقعت تحت أمواج المحيط الهادئ التي بُددت بعنف بعد هذا الانفجار، وكانت هذه المرة الأولى. ووفقاً لدراسة جديدة نُشرت بتاريخ 7 سبتمبر/ أيلول 2023 في مجلة ساينس (Science)؛ تدفّقت هذه المواد تحت الماء لعشرات الكيلومترات.
تقول عالمة البراكين البحرية في المركز الوطني لعلم المحيطات في المملكة المتحدة والمؤلفة المشاركة للدراسة الجديدة، إيزوبيل ييو: "لم تُرصد هذه العمليات من قبل".
تسبب الثوران بقطع أحد أكبال الألياف الضوئية في قاع البحر الذي يبعد نحو 72 كيلومتراً عن البركان. وبالنسبة إلى التونغيين ورجال الإنقاذ، كان انقطاع هذا الكابل حدثاً مزعجاً للغاية أدى إلى انقطاع الإنترنت في مناطق واسعة في الجزر. أما بالنسبة إلى العلماء، فقد مثّل الانقطاع المفاجئ لحركة البيانات على الإنترنت ختماً زمنياً يكشف اللحظة التي اصطدمت فيها المواد بالكابل، بعد نحو ساعة ونصف من ثوران البركان.
اقرأ أيضاً: علماء الجيولوجيا يحذرون: البشر غير مستعدين للتعامل مع الانفجارات البركانية
نبّه هذا الانقطاع العلماء إلى حقيقة أن الثوران تسبب باضطراب ما في قاع البحر، وهو حدث ليس سهل الاكتشاف. تقول ييو: "لا يمكننا رصد هذه الأحداث باستخدام الأقمار الاصطناعية، ويتعيّن علينا الغوص إلى قاع البحر وإجراء عمليات المسح". لذلك؛ بدأت ييو وزملاؤها الباحثون في الأشهر التي تلت ثوران البركان بالبحث عن الأدلة في المياه المحيطة واستخدامها لفهم ما حدث.
صوّر مالك أحد قوارب الأجرة في تونغا يحمل اسم "برانكو شوغر" الثوران الأوليّ باستخدام كاميرا هاتف محمول، كاشفاً بذلك الوقت المحدد الذي بدأت فيه المقذوفات البركانية السقوط في الماء. وبعد عدة أشهر، أبحر قارب باسم "آر في تانغاروا" (RV Tangaroa) من نيوزيلندا لمسح قاع البحر وجمع عينات من التدفّق البركاني. على عكس جزء كبير من المحيط، خرائط القاع البحر حول تونغا متوفرة؛ ما أتاح للعلماء إثبات أن تضاريس القاع في تلك المنطقة تغيّرت بالفعل.
تحريك كارثي لقاع البحر
لو حدث المشهد الذي أعاد الباحثون إنشاءه على البر، فسيكون ملائماً لأن يُستخدم في أحد أفلام الكوارث للمخرج رولاند إميرش. حرّك البركان كمية من المواد في بضع ساعات تعادل ما تضخّه أنهار العالم إلى المحيطات في عام كامل. قطعت هذه التدفقات الهائلة مسافة تجاوزت 96 كيلومتراً عن مصدرها، مشكّلة الأخاديد التي تساوي أعماقها ارتفاعات ناطحات السحاب.
اقرأ أيضاً: لأول مرة اكتشاف نشاط بركاني نشط على كوكب الزهرة
قذف البركان عند ثورانه كميات هائلة من الصخور والرماد والزجاج والغاز سقطت تجاه الأرض. هذا ما يحدث عادة في مثل هذه الانفجارات التي تقذف تدفقات الفتات البركاني السريعة التي تشكّل خطراً على أي شيء في طريقها؛ لكن الكتل التي قذفها بركان هونغا تونغا-هونغا هاباي سقطت فوق البحر.
يقول عالم الجيولوجيا البحرية في المركز الوطني لعلوم المحيطات والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، مايكل كلير: "منطقة سقوط المقذوفات هي المنطقة الأنسب لسقوط الكميات الهائلة من المواد الكثيفة مباشرة في المحيط؛ إذ إنها سقطت في منحدر حاد وتسببت بحتّ المواد فيه. تزداد رطوبة هذه المواد وتكتسب كثافة أكبر ثم تسقط".
قدّر العلماء أن المواد قُذفت من البركان بسرعة 120 كيلومتراً في الساعة؛ أي بسرعة تعادل الحد الأقصى المسموح به للسرعة في أغلبية الطرق السريعة بين الولايات الأميركية، أو تتجاوزه. إذا كان هذا التقدير دقيقاً، فهذا يعني أن مقذوفات هذا البركان كانت أسرع بنسبة 50% من أي مقذوفات بركانية أخرى تحت مائية وُثّقت في العالم. تسلّقت هذه المواد المقذوفة منحدرات تحت مائية هائلة الارتفاع.
ويقول كلير: "الأمر أشبه برؤية انهيار ثلجي؛ إذ يعتقد متفرّج يقف على جبل مجاور للانهيار أنه بأمان، ثم تقترب الثلوج المنهارة منه".
اقرأ أيضاً: بلورات ضئيلة غير مرئية مسؤولة عن انفجارات البراكين العنيفة
لماذا يجب فهم تأثير البراكين في قاع البحر؟
وفقا للباحثين؛ لم تُرصد هذه التدفقات تحت المائية من قبل. فهم تأثير البراكين في قاع البحر هو أكثر من مجرد فضول علمي؛ إذ أنشأ البشر بنىً تحتية بالغة الأهمية تحت الماء خلال القرنين الماضيين وكانت أولها كابلات التلغراف، التي تلتها خطوط الهاتف ولاحقاً الألياف الضوئية التي تنقل بيانات الإنترنت.
محاولة تحضير كابل واحد لتحمّل ثوران بركاني بهذا الحجم يشبه محاولة تحضير نفسك لتحمّل الاصطدام بقطار، وهو أمر مستحيل. بدلاً من ذلك، فإن الطريقة الأفضل للحفاظ على سلامة الاتصالات هي مد المزيد من الكابلات؛ ما يضمن ألا ينقطع الاتصال بالكامل بسبب كارثة واحدة.
هذا ما حدث في العديد من مناطق العالم. تؤدي حوادث الصيد إلى قطع الكابلات على نحو متكرر؛ ولكن آثار هذه الحوادث لا تدوم طويلاً. على سبيل المثال؛ إذا وقع حدث مشابه للانهيار الأرضي الناجم عن زلزال عام 1929 الذي أدى إلى قطع الكابلات قبالة شواطئ نيوفندلاند، فلن يؤدي ذلك إلى قطع الإنترنت على الأرجح؛ إذ توجد عدة خطوط أخرى يمكن أن تنقل حركة المرور على الإنترنت بين أوروبا وأميركا الشمالية.
لكن تبيّن الخريطة العالمية لكابلات قاع البحر أن هذه ليست الحال حول العالم، فقد أدى انقطاع كابل واحد في تونغا عام 2022 إلى انقطاع الإنترنت بالكامل عن الأرخبيل، وتتعرّض عدة جزر أخرى إلى الخطر نفسه، وخصوصاً في الدول النامية.
هذه الكابلات بالغة الأهمية بالنسبة إلى علماء الجيولوجيا أيضاً، ويقول كلير: "من دون هذه الكابلات، لم نكن لنعرف أن الأحداث تقع على هذا النطاق بالفعل".