كل ثانية، يمر 100 تريليون جسيم صغير غريب يسمى النيوترينو عبر جسمك، حيث يمر معظمها عبر بشرتك دون أن تتفاعل مطلقاً. في الحقيقة، يُصعّب عدم إبداء هذه الجسيمات أي تفاعل مع محيطها على الفيزيائيين مهمة تعقبها واكتشافها.
لكن في العقود القليلة الماضية، واجهت فيزياء النيوترينو تحدياً جديداً.
ففي تجربةٍ أجريت في أعماق جبال القوقاز في روسيا، ونُشرت نتائجها في ورقتين بحثيتين في 9 يونيو/حزيران، وجد الفيزيائيون دليلاً إضافياً يفيد بأن جزءاً من نظرية النيوترينوات الحالية في غير مكانه. إذا كانوا محقين، فقد يكشف ذلك عن نوعٍ من النيوترينو لم يُعرف من قبل قادرٍ على التخفي أكثر، ويمكن أن يفسّر سبب عدم قدرتنا على فهم المادة المظلمة التي تشكل جزءاً كبيراً من كوننا.
يقول عالم فيزياء النيوترينو بجامعة تكساس في أرلينغتون والذي لم يشارك في التجربة، بن جونز: «أعتقد أن هذا الاكتشاف ربما يكون أحد أهم النتائج في فيزياء النيوترينو خلال السنوات الخمس الماضية على الأقل».
حالة النيوترينوات التي تتصرف بغرابة
على غرار المخلوقات الأثيرية الخيالية، نادراً ما تتفاعل النيوترينوات مع بيئتها المادية. نظراً لأن شحنتها الكهربائية معدومة تماماً، فهي لا تستجيب للكهرومغناطيسية. كما أنها لا تشارك في التفاعل النووي القوي الذي يساعد على ربط الجسيمات معاً في قلب الذرات.
لكن النيوترينوات تلعب دوراً في القوة النووية الضعيفة، والتي تُعتبر- ووفقاً للنموذج القياسي الذي يُعتبر الإطار النظري الذي يشكل أساس فيزياء الجسيمات الحديثة- مسؤولةً عن أنواع معينة من النشاط الإشعاعي.
تنتج معظم النيوترينوات التي نلاحظها على الأرض من العمليات الإشعاعية في الشمس. لتتبعها، يعتمد العلماء على مراصد النيوترينو الموجودة تحت سطح البحر أو المدفونة عميقاً تحت قشرة الأرض. في الواقع، ليس من السهل في كثيرٍ من الأحيان معرفة ما إذا كانت أجهزة الكشف عن النيوترينو تعمل بشكل صحيح، لذلك يقوم الفيزيائيون بمعايرة أجهزتهم عن طريق وضع نظائر معينة تُعرف انبعاثاتها من النيوترينو جيداً بالقرب منها، مثل نظير الكروم 51.
مع اكتساب فيزياء النيوترينو زخماً في التسعينيات، لاحظ الباحثون شيئاً غريباً. في بعض التجارب، عندما قاموا بمعايرة أجهزة الكشف الخاصة بهم، بدؤوا باكتشاف نيوترينوات أقل مما توقعته فيزياء الجسيمات النظرية.
في عام 1997 في مختبر لوس ألاموس الوطني في نيو مكسيكو، على سبيل المثال، أنشأ علماء من الولايات المتحدة وروسيا خزاناً مليئاً بالغاليوم، وهو معدن يكون في حالة سائلة في أيام الصيف الحارة. عندما اصطدمت النيوترينوات بالغاليوم، امتصت ذراته الجسيمات. أدت هذه العملية إلى تحويل الغاليوم إلى معدن الجرمانيوم الأكثر صلابة، وهذا التحول عبارة عن نوع من الاضمحلال الإشعاعي المعكوس. قام الفيزيائيون بقياس كمية الجرمانيوم لتتبع عدد النيوترينوات التي مرت عبر الخزان.
ولكن عندما اختبر فريق لوس ألاموس نظامهم مستخدمين الكروم 51، وجدوا الكثير من عنصر الغاليوم، بعبارةٍ أخرى، عدداً قليلاً جداً من النيوترينوات. أصبح هذا النقص يُعرف باسم "شذوذ الغاليوم".
اقرأ أيضاً: نجاح تفاعل الاندماج النووي في مفاعل جيت الأوروبي: خطوة صغيرة أم قفزة كبيرة؟
منذ ذلك الحين، توصل الخبراء الذين يدرسون شذوذ الغاليوم إلى تفسير مبدئي. يعرف علماء فيزياء الجسيمات أن هناك 3 أنواع أو "نكهات" للنيوترينوات: نيوترينوات الإلكترون ونيوترينوات الميون ونيوترينوات تاو، والتي تلعب كلّ منها أدواراً مختلفة في ميكانيكا الكم. في ظل ظروف معينة، من الممكن رصد تبديل النيوترينوات بين النكهات. تسمى هذه التحولات "تذبذبات النيوترينو".
قاد ذلك إلى احتمال مثير للاهتمام؛ ربما تحولت النيوترينوات المفقودة في شذوذ الغاليوم إلى نوعٍ "نكهة" مخفية أخرى، وهي نكهة أقل تفاعلاً مع العالم المادي. ابتكر الفيزيائيون اسماً لهذه الفئة: النيوترينوات العقيمة.
كانت قصة النيوترينو العقيم مجرد فكرة، لكنها وجدت الدعم. في نفس الوقت تقريباً، بدأ الفيزيائيون في أماكن مثل لوس ألاموس وفيرميلاب في ضواحي شيكاغو بملاحظة تذبذبات النيوترينو مباشرةً. أثناء ذلك، وجدوا تناقضات في عدد النيوترينوات لكل نكهة توقعوا ظهورها وعدد النيوترينوات التي ظهرت بالفعل.
يقول جونز: «إما أن بعض التجارب خاطئة، وإما أن شيئاً مُثيراً للاهتمام وغريباً يحدث له توقيع مختلف».
البحث عن توقيعات عقيمة
إذاً، كيف سيبدو هذا النيوترينو العقيم؟ تشير صفة "العقيم"، وحقيقة أن الفيزيائيين لم يكتشفوها من خلال القياسات العادية، إلى أن هذه الفئة من الجسيمات تتجنب القوة النووية الضعيفة أيضاً، لذلك هناك طريقة واحدة فقط يمكنها من خلالها التفاعل مع بيئتها: الجاذبية.
في المستويات دون الذرية حيث تعيش النيوترينوات، وبسبب كتلتها الضئيلة جداً، يكون أثر الجاذبية ضعيفاً للغاية، وبالتالي سيكون من الصعب للغاية اكتشاف النيوترينوات العقيمة.
استمر الحال كذلك في القرن الحادي والعشرين، حيث كانت الحالات الشاذة غير متسقة للغاية بالنسبة للفيزيائيين لمعرفة ما إذا كانت ترقى إلى النيوترينوات العقيمة. لقد اكتشفت بعض التجارب حالات شاذة، بينما لم تكتشفها تجارب أخرى. يبدو أن التجارب لم تخرج إلا بأدلة ظرفية. يقول جونز: «أعتقد أن الكثير رأوا الحالات الشاذة، وأنا رأيتها على هذا النحو أيضاً».
لذلك، أنشأ الفيزيائيون مرصداً جديداً بالكامل لاختبار شذوذ الغاليوم في تجربة لوس ألاموس، وأطلقوا عليه اسم "تجربة باكسان في التحولات العقيمة" أو "بيست" (BEST) اختصاراً.
اقرأ أيضاً: تاريخ موجز ومرعب للأسلحة النووية التكتيكية
يقع المرصد في نفق مدفون على مسافة تزيد على ميل واحد تحت نهر باكسان في جمهورية قبردينو- بلقاريا الروسية، عبر الجبال في دولة جورجيا. هناك، وقبل الغزو الروسي لأوكرانيا الذي أوقع المجتمع العلمي المحلي في حالة من الفوضى، أعاد فريق دولي من علماء فيزياء الجسيمات إنشاء تجربة لوس ألاموس الخاصة بشذوذ الغاليوم للبحث تحديداً عن النيوترينوات المفقودة.
وجدت التجربة الشذوذ مرةً أخرى من خلال اكتشاف كمية أقل من المتوقع من الجرمانيوم بنسبة 20 إلى 25%. يقول عالم فيزياء الجسيمات في مختبر لوس ألاموس الوطني والمتعاون في تجربة بيست، ستيف إليوت، في بيان صدر في أوائل يونيو/حزيران: «يعيد ذلك بالطبع التأكيد على الشذوذ الذي رأيناه في التجارب السابقة. لكن ما يعنيه هذا ليس واضحاً».
على الرغم من النتيجة المرضية، لا يريد الفيزيائيون التسرع. "بيست" هي تجربة واحدة فقط، وهي لا تفسّر كل التناقض الذي يُنسب إلى النيوترينوات العقيمة. (جادلت تحليلات أخرى بأن نتيجة فيرميلاب لا يمكن أن تكون علامةً على النيوترينوات العقيمة، لكن هذه التحليلات لم تقدم تفسيراً بديلاً).
ولكن إذا وجد العلماء دليلاً مشابهاً في سيناريوهات أخرى- على سبيل المثال، في تجربة مرصد النيوترينو "آيسكيوب" المدفون تحت صفائح أنتاركتيكا، أو في أجهزة الكشف الأخرى المخطط بناؤها بهدف البحث عن النيوترينو العقيم- فسيكون ذلك دليلاً حقيقياً ومقنعاً على وجود شيء ما.
إذا صمدت نتائج تجربة بيست -وأكدتها تجارب أخرى- فهذا لا يعني أن النيوترينوات العقيمة هي المسؤولة عن هذا الشذوذ. قد تكون هناك جسيمات أخرى غير مكتشفة تؤدي دوراً أيضاً، أو يمكن أن يكون التناقض بأكمله بصمة لبعض العمليات الغريبة وغير المعروفة. ومع ذلك، إذا كانت فكرة النيوترينوات العقيمة صحيحة، فإنها ستحطم أكبر نظرية حول بعض أصغر الأجسام في العالم.
اقرأ أيضاً: هل سيدشن مفاعل «جيت» عصر الحصول على الطاقة من الاندماج النووي؟
يقول جونز: «سيكون دليلاً حقيقياً، ليس فقط على فيزياء تتجاوز النموذج القياسي، بل على فيزياء جديدة حقاً وغير مفهومة».
باختصار، إذا كانت النيوترينوات العقيمة موجودة، فإن الآثار ستتجاوز فيزياء الجسيمات. يمكن أن تشكل النيوترينوات العقيمة جزءاً كبيراً من المادة المظلمة في كوننا، والتي تحتوي على 6 أضعاف كمية المادة التي يمكننا رؤيتها، والتي لا نزال لا نفهمها حتى الآن.