اعتقد المصريون القدماء أنه عندما يموت شخص ما، فإن جسده الروحي يسعى إلى الحياة الآخرة. لكن الحصول على هذه الحياة الآخرة لم يكن مضموناً؛ إذ يجب أن تقطع هذه الأرواح رحلة محفوفة بالمخاطر عبر العالم السفلي حتى تتمكن من الوصول أخيراً إلى أوزيريس (Osiris) وهو إله الموتى الذي يعيش في قاعة الحكم النهائي. بذل أقارب الموتى والمحنطون كل ما وسعهم لضمان وصول أحبائهم إلى مكان في الحياة الآخرة يعيشون فيه بسعادة، وتم توثيق العديد من هذه المعتقدات والممارسات وتعديله في كتاب الموتى قرابة القرن السادس عشر قبل الميلاد على الأرجح.
مومياء الفتى الذهبي
بعد آلاف السنين، استمر العلماء في محاولة كشف تفاصيل ممارسات الدفن هذه. وتصف دراسة جديدة نُشرت بتاريخ 24 يناير/كانون الثاني 2023 في مجلة فرونتيرز إن ميديسن (Frontiers in Medicine) الطريقة التي استخدم فيها فريق بحثي مصري تكنولوجيا التصوير المقطعي المحوسب "للكشف الرقمي" لأول مرة عن مومياء محفوظة تماماً يبلغ عمرها 2,300 سنة تعود إلى صبي مراهق ينتمي إلى طبقة اقتصادية اجتماعية راقية دُفن مع ما يقل عن 49 تميمة. يسلط هذا الاكتشاف الضوء على إجراءات التحنيط وأهمية الحلي التي وُضعت في القبور خلال فترة المملكة البطلمية في تاريخ مصر القديمة والتي امتدت بين عاميّ 305 و30 قبل الميلاد.
وُجدت "مومياء الفتى الذهبي" في عام 1916 في مقبرة في قرية نجع الحسي جنوب مصر التي استُخدمت في الفترة بين عاميّ 332 و30 قبل الميلاد تقريباً. تحتوي هذه المومياء على العديد من المزايا النموذجية التي تعكس معتقدات المصريين القدماء والمتعلقة بالحياة ما بعد الموت. وُضع ما لا يقل عن 49 تميمة من 21 نوعاً مختلفاً في قبر هذا الصبي المراهق لضمان إعادة بعث جسده، وقد ارتدى خُفّاً كرمز لطهارته، وتم لف أوراق السرخس حول جسده.
اقرأ أيضاً: لماذا برع المصريون القدامى في تحنيط الموتى؟
الإعداد للرحلة إلى العالم الآخر
قالت المؤلفة المشاركة للدراسة الجديدة والأستاذة في كلية الطب في جامعة القاهرة المصرية، سحر سليم (Sahar Saleem) في بيان صحفي: "تبين دراستنا كيف تم تزيين جسم هذه المومياء باستخدام 49 تميمة جميلة من أنواع مختلفة ومرتّبة في 3 أعمدة بين ثنايا اللفافات وداخل تجويف جسم المومياء. تتضمن هذه التمائم عين حورس وتميمة مصنوعة من الجعران الفرعوني وتميمة أخيت (تميمة شمس الأفق) وتميمة المشيمة وعقدة إيزيس وغيرها.
صُنع العديد من هذه التمائم من الذهب، بينما صُنع بعضها الآخر من الأحجار شبه الكريمة والطوب المحروق أو الخزف. الهدف من وجود هذه التمائم هو حماية الجسد ومنحه الحيوية في الحياة الآخرة".
استخدام التمائم في المعتقدات المصرية القديمة
يمثل استخدام التمائم مجموعة واسعة من المعتقدات المصرية القديمة والمتعلقة بالموت والحياة الآخرة، فقد تم وضع ورقة اللسان الذهبي داخل فم الصبي المحنط حتى يتمكن من الكلام في الحياة الآخرة، ووُضعت أيضاً تميمة لها شكل إصبعين بجانب قضيبه لحماية شق التحنيط. وُضعت أيضاً عقدة إيزيس في قبر الصبي المحنّط كدعوة لآلهة إيزيس؛ وهي آلهة الشفاء والسحر المصرية، بهدف حماية الجسم. بالإضافة إلى ذلك، وُضعت تميمة بزاوية قائمة في القبر لجلب التوازن لروحه كما تم وضع تميمة ريش الصقر المزدوجة وتميمة ريش النعام لتمثيل ازدواجية الحياة الروحية والجسدية.
اقرأ أيضاً: الكشف عن طريقة فريدة لتحنيط التماسيح في مصر القديمة
وُضعت المومياء داخل تابوتين؛ احتوى أولهما على نقوش باللغة اليونانية، بينما كان الثاني مصنوعاً من الخشب. ارتدى الصبي أيضاً قناع رأس مذهّباً وغطاءً صدرياً في الجزء الأمامي من جذعه، بالإضافة إلى الخف. قالت سليم: "على الأرجح أن الهدف من وضع الخف هو منح الصبي القدرة على الخروج من التابوت. وفقاً لكتاب الموتى المصري القديم؛ كان على الميت أن يرتدي خفاً أبيض اللون كدليل على طهارته ونظافته قبل أن يتلو الآيات".
بيّنت الصور المقطعية أن الصبي لم يكن مختوناً، وأن طوله بلغ نحو 122 سنتيمتراً، ومع ذلك لم يتمكن الباحثون من تحديد أي سبب للوفاة غير الوفاة الطبيعية. ويقدر الفريق أن عمر الصبي تراوح بين 14 و15 سنة عند وفاته، وذلك نظراً لمقدار الالتحام العظمي وافتقاره لضروس العقل. لم يتمكن الباحثون أيضاً من إيجاد أي أدلة تبين أن الصبي فقد أياً من أسنانه أو أنه عانى من تسوس الأسنان أو أمراض اللثة.
تم لف السطح الخارجي للمومياء أيضاً بأوراق السرخس الرمزية. قالت سليم: "افتتن المصريون القدماء بالنباتات والزهور واعتقدوا أنها تتمتع بخواص رمزية ومقدّسة. تم وضع باقات من النباتات والزهور إلى جانب الصبي المحنّط وقت الدفن، وتم فعل الأمر نفسه عند دفن مومياوات ملوك المملكة الحديثة؛ أحمس وأمنحوتب الأول ورمسيس العظيم. كما تم وضع النباتات في قبره في كل زيارة أُجريت خلال الأعياد الدينية".
اقرأ أيضاً: كيف أثرت الروائح بالمصريين القدماء وشعوب شبه الجزيرة العربية؟
تُرك قلب الصبي المحنط الذي اعتُقد من قبل أنه مركز الذكاء والكيان، في مكانه؛ لكن أُزيلت بقية الأعضاء عبر شق التحنيط وتم استئصال الدماغ من الأنف واستُبدل بمادة الراتنج.
عثر الباحثون داخل التجويف الصدري للجثة (والذي يحتوي على القلب والرئتين) على تميمة على شكل خنفساء الجعران مصنوعة من الذهب، وقام الفريق بصنع نسخة عنها باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد لعرضها ودراساتها.
قالت سليم: "تم ذكر تميمة جعران القلب هذه في الفصل رقم 30 في كتاب الموتى، وكانت تُعتبر ضرورية في الحياة الآخرة في أثناء الحكم على الميت والحكم على قلبه بمقارنته بريشة الآلهة المصرية ماعت. تتمثل وظيفة هذه التميمة في إسكات القلب يوم الحساب حتى لا يشهد ضد المتوفى، وتم وضعها داخل تجويف الجذع في أثناء التحنيط لتحل محل القلب إذا فُقد لسبب ما".
قام فريق إدارة المتحف المصري بنقل المومياء إلى قاعة العرض الرئيسية، وعُرضت تحت اسم "الفتى الذهبي".