يستعين العلماء، وخاصةً علماء الأحياء، بالمجاهر الضوئية لرؤية ما لا تراه العين المجردة، فهي تعمل على تكبير الأجسام الدقيقة حتى 1000 مرة في أفضل الأحوال وبدقة تبلغ 200 نانومتراً. ساعد ذلك على اكتشاف الخلايا ومكوناتها، والبكتيريا وغيرها من الكائنات الدقيقة، لكن رغبة العلماء لم تتوقف عند هذا الحد، بل يريدون اكتشاف ما هو أدق من ذلك، وهذا ما دفعهم لابتكار مجاهر من نوع آخر قادرةً على تكبير الأجسام أكثر من 10 آلاف مرة، وهي المجاهر الإلكترونية.
ما هي المجاهر الإلكترونية؟
المجاهر الإلكترونية هي أدوات علمية تستخدم شعاعاً من الإلكترونات عالية الطاقة لفحص الأشياء بالغة الدقة. قد تصل قوة تكبيرها من 10 آلاف مرة حتى 10 ملايين مرة، وبدقة 50 بيكومتراً (0.05 نانومتراً).
يزودنا الفحص باستخدام هذا النوع من المجاهر بعدة معلومات:
- ملامح العينة أو كيف تبدو، وما قوامها.
- شكل وحجم الجسيمات التي تتكون منها العينة.
- العناصر والمركبات التي تتكون منها العينة والكميات النسبية لها.
- ترتيب الذرات في العينة.
يتميز المجهر الإلكتروني عن المجهر الضوئي بقوة تكبيره الأعلى بكثير. أما عن عيوبه أمام المجهر الضوئي فإن تكلفته عالية، وحجمه ضخم، كما يحتاج إلى تدريب خاص لإعداد العينات وفحصها واستخدامه بشكل عام.
تطور المجاهر الإلكترونية
اقترحت الأبحاث الأساسية التي أجراها العديد من الفيزيائيين في الربع الأول من القرن العشرين أن أشعة الكاثود (أي الإلكترونات) يمكن استخدامها بطريقة ما لزيادة دقة المجهر. اقترح الفيزيائي الفرنسي (لويس دي بروي) في عام 1924 أن حِزم الإلكترونات يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال حركة الموجة. ومع إمكانية استخدام مثل هذه الموجات في المجهر، ينتج زيادة كبيرة في الدقة. وفي عام 1926، تم إثبات أن المجالات المغناطيسية أو الكهروستاتيكية يمكن أن تعمل كعدسات للإلكترونات أو الجسيمات المشحونة الأخرى.
مع هذا الاكتشاف بدأت دراسة مجال جديد هو بصريات الإلكترون، وبحلول عام 1931، ابتكر المهندسان الكهربائيان الألمانيان "ماكس نول" و"إرنست روسكا" مجهراً إلكترونياً ثنائي العدسة أنتج صوراً ناتجة عن استخدام الإلكترونات. في عام 1933، تمكنا من تطوير مجهر إلكتروني بدائي يصور العينات بالاعتماد على مصدر إلكتروني، وفي عام 1935 أنتجا صورةً ممسوحة ضوئياً لسطح صلب. وكان هذا هو المجهر الإلكتروني النافذ الأول.
اقرأ أيضاً: مجهر ورقي يبشر بثورة جديدة بعالم المخابر
كيف يعمل المجهر الإلكتروني؟
تعمل المجاهر الإلكترونية تماماً مثل نظيراتها الضوئية باستثناء أنها تستخدم شعاعاً مركّزاً من الإلكترونات بدلاً من الضوء "لتصوير" العينة والحصول على معلومات عن هيكلها وتكوينها.
- بدايةً، يجب إعداد العينة بشكل خاص حتى تتمكن الإلكترونات من التفاعل معها. ثم يتم إفراغ الحجرة التي توضع العينة داخلها لتكوين فراغ لأن الإلكترونات لا تنتقل بعيداً بوجود الغازات.
- يتكون تيار من الإلكترونات (بواسطة مصدر الإلكترونات) ويتم توجيهه نحو العينة باستخدام جهد كهربائي موجب. ثم يُقيّد هذا التيار ويُركّز باستخدام فتحات معدنية وعدسات مغناطيسية في حزمة رقيقة ومركزة وأحادية اللون.
- تحدث التفاعلات داخل العينة المشعة، ما يؤثر على شعاع الإلكترون. تُكتَشف هذه التفاعلات والتأثيرات وتتحول إلى صورة، أو تُعرَض العينة من خلال شاشة.
يتم تنفيذ الخطوات المذكورة أعلاه في جميع المجاهر الإلكترونية بغض النظر عن نوعها.
اقرأ أيضاً: الفحص المجهري فائق البرودة يفوز بجائزة نوبل للكيمياء
أنواع المجاهر الإلكترونية
للمجاهر الإلكترونية أنواع عديدة، لكل منها ميزاته وعيوبه، وغرض خاص لاستخدامها.
المجهر الإلكتروني النافذ
المجهر الإلكتروني الناقل، أو النافذ (TEM)، هو أول المجاهر الإلكترونية التي اختُرعت بعد المجاهر الضوئية، كما سبق وذكرنا. العينات التي تُفحَص بواسطته يجب أن تكون رفيعة جداً، ويمر من خلالها شعاع إلكتروني عالي الجهد لتكوين صورة على لوحة فوتوغرافية أو مستشعر أو شاشة فلورة.
تكون الصورة المكونة ثنائية الأبعاد وبالأسود والأبيض، تشبه تلك الملتقطة بالأشعة السينية. يتميز بقدرته على تكبير عالٍ جداً، وبدقة عالية جداً أيضاً، العيب الرئيسي هو وجوب أن تكون العينات رفيعة جداً.
يمكن باستخدام المجهر الإلكتروني النافذ معرفة العناصر والمركبات التي تتكون منها العينة وحجمها وترتيبها وعلاقتها ببعضها على مقياس الأقطار الذرية، ونسبها أيضاً.
المجهر الإلكتروني الماسح
ظهر أول مجهر إلكتروني ماسح (SEM) في عام 1942، أما تجارياً، فقد ظهر أول مجهر في حوالي عام 1965، وفيه يمسح شعاع الإلكترونات سطح العينة. وتتكون الصورة الناتجة من إلكترونات ثانوية تنبعث من السطح عندما يتم تحفيزها بواسطة شعاع الإلكترون. فيه كاشف يرسم إشارات الإلكترونات، ويشكل صورة توضح عمق العينة بالإضافة إلى بنية سطحها.
من ناحية الدقة، فإن المجهر الإلكتروني الماسح أقل دقة من النافذ، لكن يتميز عنه بتشكيله صورة ثلاثية الأبعاد للعينة، كما يمكن استخدامه على عينات أكثر سمكاً، حيث يتم فحص السطح فقط.
عند استخدام المجهر الإلكتروني الماسح نحصل على صورة توضح ملامح سطح العينة وقوامها، وشكل الجسيمات التي تتكون منها وحجمها وترتيبها، كما يمكن معرفة العناصر والمركبات التي تتكون منها العينة ونسبها في ميكرومتر واحد.
مهما كان نوع المجهر الإلكتروني المُستَخدم، من المهم إدراك أن الصورة لا تشكل تمثيلاً دقيقاً للعينة بالضرورة، فقد تواجه العينة تغييرات بسبب تحضيرها للفحص، أو من التعرض للفراغ في حجرة العينات، أو من التعرض لشعاع الإلكترونات.
مجهر المسح النفقي
تظهر أهمية مجهر المسح النفقي (STM) على المستوى الذري، فهو النوع الوحيد من المجاهر الإلكترونية الذي يمكنه تصوير الذرات المفردة، إذ يمكن أن تصل قوة تكبيره حتى 100 مليون مرة. تبلغ دقته نحو 0.001 نانومتراً، أي نحو 1% من قطر الذرة. ويتميز بعدم ضرورة إفراغ حجرة العينة من الهواء، فهو يعمل في الهواء والماء والغازات والسوائل الأخرى. يمكن استخدامه على نطاق واسع من درجات الحرارة، من الصفر المطلق إلى أكثر من 1000 درجة مئوية.
يعتمد عمله على مبدأ النفق الكمومي، حيث يتم وضع طرف موصل كهربائي بالقرب من سطح العينة. عندما يتم تطبيق فرق الجهد، يمكن للإلكترونات أن تشكل نفقاً بين الطرف الموصل والعينة. يتم قياس التغيير في تيار الطرف الموصل أثناء مسحه ضوئياً عبر العينة لتكوين صورة ثلاثية الأبعاد. على عكس الأنواع الأخرى من المجهر الإلكتروني، فإنه ميسور التكلفة وسهل الصنع.
أدى تطوير مجهر المسح النفقي إلى حصول مطورَيه (جيرد بينيج) و(هاينريش روهرر) على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1986.
مجهر القوة الذرية
مجهر القوة الذرية (AFM) هو مجهر ماسح عالي الدقة، يمكنه فحص العينات بدقة 1 أنجستروم (0.1 نانومتراً)، أي تكبيرها حتى مليون مرة. يحتوي على ذراع في نهايتها مجس دقيق ونانوي، في طرفه رأس حاد من السيليكون أو نتريت السيليكون، يستخدم لمسح سطح العينة على مستوى النانومتر أو الأنجستروم. يجب توخي الحذر عند التعامل مع هذا المجهر، وأثناء فحص العينات، خشية كسر الرأس الحاد والهش أيضاً.
يمكن باستخدام مجهر القوة الذرية تطبيق قوى مختلفة بين الطرف والسطح، وذلك تبعاً للغاية المرجوة من الفحص أو العينة. قد تكون القوى المطبقة: قوة التلامس الميكانيكية أو المغناطيسية أو قوى فاندرفالس أو الكهرباء الساكنة وغيرها.
تم تطويره عن مجهر المسح النفقي الذي يحتاج لطلاء العينات بناقل معين، ما يعني أنه يجب أن تكون الأسطح موصلة أو شبه موصلة، ما حدّ من تطبيقه لفحص العينات مثل البروتينات. أما مع تطوير مجهر القوة الذرية أصبح بالإمكان فحص البوليمرات والسيراميك والزجاج بالإضافة إلى المركبات الحيوية مثل البروتينات.
اختُرع مجهر القوة الذرية عام 1985 من قِبل "بينينغ" و"كوات"، وقد تكوّن المجهر الذي عملا على تطويره من قطعة من الماس متصلة بشريط من رقائق الذهب. وفيه يلامس رأس الماس السطح مباشرة، مع قوى فاندرفالس بين الذرية التي توفر آلية التفاعل.
اقرأ أيضاً: مجهر حديث يستخدم الضوء لقطع عينات من النسج والكشف عن السرطان فيها
توافر المجاهر الإلكترونية
أصبحت المجاهر الإلكترونية أداةً لا غنى عنها في الأبحاث العلمية في جميع الاختصاصات، لكنها على عكس المجاهر الضوئية، لا يمكن اقتناؤها في أي مختبر أو مركز أبحاث، فبسبب ضخامة حجمها، وخصوصية تحضير العينات وطريقة فحصها، يتطلب كل مجهر إلكتروني مختبراً خاصاً به. وعلى الباحث أن يجد مختبراً جيداً، فيه أحد أنواع المجاهر الإلكترونية المناسبة لبحثه.
من أجل ذلك، إن كنت باحثاً عربياً وتريد استخدام المجهر الإلكتروني لغاية بحثية يمكنك (إن كنت في المملكة العربية السعودية) اللجوء لمختبرات مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية مثلاً، إذ تحتوي المختبرات على ثلاثة مجاهر: المجهر الإلكتروني الماسح والمجهر الإلكتروني النافذ ومجهر القوة الذرية، كما يحتوي المختبر على أجهزة مساعدة، مثل جهاز طلاء للعينات، وجهاز تحضير العينات. يستقبل المختبر العينات من الباحثين ومن ثم تحضيرها وفحصها لمعرفة تفاصيل العينة من حيث المكونات، وشكل السطح، وشكل البلورات، ومعرفة العناصر الكيميائية والتركيبة الداخلية للعينة، ومن ثم تسليم تقرير كامل للباحث بالنتائج.