ظهر نوع الإنسان العاقل منذ نحو 300 ألف سنة، وفاز في النهاية في المعركة التطورية، وأصبح النوع الوحيد من جنس البشر الذي بقي على قيد الحياة على كوكب الأرض قبل نحو 40 ألف سنة. خلال الفترة الأولى من عمر هذا النوع، عاش نوع آخر من البشر يحمل اسم إنسان نياندرتال (أو الإنسان البدائي) جنباً إلى جنب مع الإنسان العاقل. وفي عام 2010، بيّن تحليل ثوري لجينوم النياندرتال أن النوعين يمكنهما التكاثر فيما بينهما بنجاح.
تزاوج أودى بإنسان نياندرتال
اعتقد العلماء من قبل أن العنف والحرب تسببا بانقراض إنسان نياندرتال. مع ذلك، أضافت دراسة جديدة نُشرت بتاريخ 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 في مجلة باليو أنثروبولوجي (PalaeoAnthropology) المزيد من الأدلة على الفكرة التي تزداد شيوعاً والتي تنص على أن الإنسان العاقل تسبب في انقراض إنسان نياندرتال بطريقة مختلفة تماماً، وهي التزاوج.
قارن مؤلفو هذه الدراسة جينومات النياندرتال والبشر المعاصرين، ووجدوا أنه من المحتمل أن التزاوج بين النوعين قد أدى إلى انقراض إنسان نياندرتال في نهاية المطاف. عند فحص جينوم النياندرتال عن كثب ومقارنته بجينوم البشر، اكتشف الباحثون أن البشر الآسيويين والأوروبيين يتشاركون بنسبة تتراوح بين 1% و4% من حمضهم النووي مع النياندرتال، بينما لم يتشارك الأفارقة مع هذا النوع القديم بأي نسبة. يشير ذلك إلى أن البشر المعاصرين تزاوجوا مع إنسان نياندرتال بعد هجرتهم من قارة إفريقيا ولكن قبل انتشارهم في الشرق والشمال تجاه قارة أوروبا منذ نحو 250 ألف سنة.
اقرأ أيضاً: كيف أوصل تسلسل جينوم النياندرتال سفانتي بابو لجائزة نوبل للطب 2022؟
مع ذلك، لا توجد أي أدلة تبين وجود مورثات الإنسان العاقل في جينومات إنسان نياندرتال المتأخر والتي تعود للفترة ما بين 40 و60 ألف سنة مضت. تمت سلسلة 32 جينوماً فقط لإنسان نياندرتال حتى الآن. ما يجعل من المحتمل أن غياب مورثات الإنسان العاقل في جينومات إنسان نياندرتال يعود في الواقع إلى نقص في كمية العينات المدروسة.
ظاهرة التهجين
من المحتمل أيضاً تفسير ذلك بظاهرة التهجين، والتي تحدث عندما يتزاوج أفراد أحد الأنواع مع أفراد نوع آخر وينتجون ذرية من سلالة جديد. هناك العديد من الأمثلة على الهجائن في الطبيعة. مثل السَّدبَر (الأسد الببريّ)، وهو نسل ذكر الأسد وأنثى الببر، والبغل، وهو نسل ذكر الحمار والفرس. بالنسبة لبعض الهجائن، يُحدث جنس الأبوين فرقاً. وتكون الذرية في أغلب الأحيان عقيمة.
يشير غياب الحمض النووي المتقدّر (الذي يرثه الأبناء من أمهاتهم) الخاص بإنسان نياندرتال في الحمض النووي للبشر المعاصرين إلى أن ذكور النياندرتال وإناث الإنسان العاقل يمكنهم التزاوج بنجاح فقط. إذا صحّت الفرضية التي وضعها مؤلفو الدراسة، فمن المحتمل أن عدد حالات التزاوج بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل ازداد على حساب عدد حالات تزاوج أفراد جماعات إنسان نياندرتال فيما بينهم. من شأن ذلك أن يتسبب في تناقص أعداد جماعات النياندرتال الصغيرة والمتفرقة، ما قد يؤدي بهم إلى الانقراض في نهاية المطاف.
اقرأ أيضاً: هل تسببت الأرانب في انقراض إنسان النياندرتال؟
قال قائد الأبحاث في مجال تطور البشر في متحف التاريخ الطبيعي في لندن وأحد مؤلفي الدراسة الجديدة، كريس سترينغر (Chris Stringer)، في بيان صحفي: "لا نعرف ما إذا كان سبب انتقال المورثات من النياندرتال إلى الإنسان العاقل فقط هو أن ذكور الإنسان العاقل لم يتزاوجوا مع إناث النياندرتال، أو أن التزاوج حدث ولكنه لم يكن ناجحاً، أو أن جينومات إنسان نياندرتال المتوفرة لا تمثل جماعات هذا النوع بشكل جيد"، وأضاف: "مع سلسلة المزيد من جينومات النياندرتال، يفترض أن نتمكن من اكتشاف ما إذا انتقل حمض الإنسان العاقل النووي إلى هذا النوع وما إذا كانت فرضيتنا دقيقة".
قال سترينغر: "أصبحت دراسة التفاعل بين الإنسان العاقل والنياندرتال أكثر تعقيداً في السنوات القليلة الماضية. ولكن لا تزال المناقشات العلمية حول كيفية حدوث التزاوج بين النوعين نادرة"، وأضاف: "نعتقد أنه من المحتمل أن هذا السلوك أدّى إلى انقراض إنسان نياندرتال إذا تزاوج أفراد هذا النوع بشكل منتظم مع أفراد نوع الإنسان العاقل، ما من شأنه أن يتسبب في تناقص أعدادهم واختفائهم في النهاية".
اقرأ أيضاً: كيف تلعب جينات إنسان نياندرتال دورها في حمايتنا من الأمراض؟
منذ نحو 600 ألف سنة، تباعد نوعا الإنسان العاقل وإنسان النياندرتال وراثياً وتطورا في مناطق مختلفة للغاية من العالم. وُجدت أحافير النياندرتال في قارة آسيا وأوروبا، كما وجد البعض منها في مناطق بعيدة للغاية عن قارة إفريقيا مثل جنوب سيبيريا.
في المقابل، تطور الإنسان العاقل في إفريقيا. ولكن العلماء ليسوا متأكدين مما إذا أسلافنا ينحدرون مباشرة من إحدى مجموعات أشباه البشر الإفريقيين أو إذا نشأوا نتيجة التزاوج بين الجماعات المختلفة التي انتشرت عبر هذه القارة.