في الشيخوخة يغيب التحسس للهرمونات المحفزة للنمو، ما يؤدي لتوقف النمو وبدء تراجع العمليات الحيوية في الخلية، يُصاحب ذلك تغير هائل في ترتيب الكروماتين الذي يُنظَّم عن طريق مجموعة من الإشارات الفيزيولوجية وعوامل النسخ والإنزيمات.
ولطالما اعتُبرت الشيخوخة حالة لا رجعة فيها وجزءاً لا يتجزأ في التطور الطبيعي، إلّا أنه تبين مؤخراً أن الشيخوخة الخلوية قابلة للعكس وذلك بعدما قام الباحث المصري هيثم شعبان بتعديل الجينوم ثلاثي الأبعاد، فكيف فُسِرت النتائج؟
اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن الجينوم الشامل؟
الشيخوخة تعني زيادة الإصابة بالأمراض
نعي جميعنا أن مصير حياة أي خلية هو الشيخوخة، وتتميز الشيخوخة في المقام الأول بتوقف التكاثر نتيجة غياب محفزات التكاثر والمسارات المؤيدة للبقاء، لهذا يبدو أن الشيخوخة هي حالة لا رجعة فيها من توقف دورة الخلية.
وبشكلٍ عام، تختلف الخلايا الهرمة من حيث الخصائص الشكلية والجزيئية المحددة عن مجموعات الخلايا الأخرى غير المنقسمة، إذ يصاحب انخفاض تكاثر الخلايا الهرمة عملية إعادة تشكيل واسعة النطاق للتنظيم ثلاثي الأبعاد للجينوم، كما أن الخلايا الهرمة لا تموت وتستمر في إنتاج العوامل الالتهابية التي بدورها تفاقم شيخوخة الخلايا لتزيد من فرص الإصابة بالأمراض.
باحث مصري يحدد نقطة الانطلاق للعودة من الشيخوخة
انطلاقاً من أن تغييرات تنظيم الجينوم تقوم بتنظيم مراحل مختلفة من الشيخوخة، تمت مناقشة تغيرات التعبير الجيني وآليات التحكم الخلوية بالشيخوخة من خلال دراسة نُشرت في دورية "موت الخلية والتمايز" (Cell Death and Differentiation)، بحثت في تغيرات الكروماتين لتحديد العلامات المبكرة لحالات الشيخوخة المختلفة، وترأس هذا البحث عالم الجينوم المصري هيثم شعبان بدعوته من قِبل هيئة تحرير الدورية لريادته في علوم الجينوم، إلى جانب سوزان جاسر وهي أستاذة في العلوم الوراثية والبيولوجيا الجزيئية ورئيسة المعهد السويسري لأبحاث السرطان التجريبية.
قام الباحث هيثم شعبان برسم خريطة للجينوم لفهم آلية حدوث الشيخوخة كي يتم تحديد الخلايا الهرمة في مراحل شيخوختها المبكرة، وذلك من خلال إعادة تنظيم الجينوم بأساليب ثلاثية الأبعاد ابتكرها العالم نفسه. وتبين بعد ذلك أن تثبيط البروتينات والعوامل الحيوية والإنزيمات التالية تؤدي دوراً في تسريع حدوث الشيخوخة وهي:
- البروتين الكابت للورم (P53) الذي يعتبر الجين الأكثر أهمية في قمع السرطان.
- عامل النسخ (H3K9me).
- الإنزيم (PDK-1).
- عامل النسخ (AP-1) الذي ينظّم التعبير الجيني للاستجابة لمجموعة متنوعة من المحفزات، بما في ذلك السيتوكينات وعوامل النمو والإجهاد والالتهابات البكتيرية والفيروسية.
اقرأ أيضاً: ما الذي كشفته سلسلة جينوم بيتهوفن عنه؟
كما أن من أبرز تغيرات تنظيم الكروماتين التي سرّعت من حدوث الشيخوخة كانت فقدان بؤر الهيتروكروماتين، وركّز الباحث على أن الزيادة في الاتصالات قصيرة المدى والانخفاض في الاتصالات طويلة المدى، إلى جانب نقص عدد TADs -وهي مناطق جينومية ذاتية التفاعل تؤمّن تفاعلاً بين الخلايا ضمنها إذ تكون التفاعلات ضمنها أكثف من التفاعلات خارجها- تتسبب بتسريع الدخول في الشيخوخة.
كيف تم إيقاف تطور الشيخوخة في الخلايا الهرمة؟
بعد القيام بسلسلة من التجارب، تبين أن إضافة العوامل الكيميائية والحيوية الأربعة وهي العامل الكابت للورم (P53) والإنزيم (PDK-1) وعوامل النسخ (H3K9me) و(AP-1) إلى المادة الوراثية للخلايا الهرمة كانت كفيلة بإعادة الخلايا إلى الحالة الطبيعية وإيقاف تطور الشيخوخة فيها. حيث ساعدت هذه الإضافة على إعادة تنظيم الجينوم داخلياً إلى الحالة التي كان عليها في مرحلة ما قبل الشيخوخة، علماً أن إضافة واحدة فقط منها كانت كفيلة بتحقيق هذا التأثير الإيجابي.
الآفاق المستقبلية لإعادة تنظيم الجينوم ثلاثي الأبعاد
قال العالم والباحث هيثم شعبان في لقاء صحفي له: "هذه التقنيات تُجيب عن أسئلة عديدة متعلقة بإعادة تنظيم جينوم الخلايا الهرمة، فالعديد من الأسئلة لا إجابات لها ولم تُدرس من قبل لعدم توفر تقنيات الذكاء الاصطناعي هذه سابقاً". وأضاف: "تمثّل هذه الورقة البحثية خريطة لكيفية الاستفادة من هذه التقنيات، بالشكل نفسه الذي استفدنا منه في تحديد آليات حدوث الشيخوخة على المستوى الجيني وكيفية إيقافها، ودمجها مع تقنيات أخرى لتحديد المؤشرات الحيوية ذات بصمة التنظيم الجيني والعمل عليها".
اقرأ أيضاً: بحث جديد يلقي الضوء على جينوم أول حيوان ثديي تطور على الأرض
من الواضح أن تراجع تنظيم وتغير ترتيب الكروماتين لاعب رئيسي في حدوث الشيخوخة وزيادة الإصابة بالأمراض التنكسية والسرطان، فالسرطان هو شذوذ في الحمض النووي للخلية يجعلها تتطور بشكلٍ مرضي وغير طبيعي، لهذا من المتوقع أن نشهد مستقبلاً ثورة في علوم الوراثة والعلوم الصحية الأخرى. وإيقاف الشيخوخة أو "العودة من الشيخوخة" لا يعني أننا سنعود شباباً ظاهرياً، وإنما ستغدو أجسامنا صحية كما كنا يافعين، وهذا يعني تراجعاً في أعداد المصابين بالأمراض المرتبطة بالشيخوخة والأمراض التنكسية والسرطان.