تستطيع بعض الحيوانات الوقوف والمشي وحتى الجري بعد لحظات من ولادتها. أمّا صغار البشر، فهم يكتفون بالبكاء والبصق والتبرز. كما أنهم لا يبدؤون في ممارسة النشاطات الجسدية إلا بعد عدة أشهر من ولادتهم.
ولكن قد يعود تأخر بلوغ البشر كنوع إلى سبب تطوّري. وجدت دراسة جديدة نُشرت في مجلة ساينس أدفانسيس أن قدرة البشر على جمع الموارد التي يصعب استخراجها تزداد عبر فترة الطفولة. نظراً لأن جمع الطعام مهمة صعبة بالنسبة للبشر، فإن إتقانها يستغرق الكثير من الوقت.
ما سبب طول مرحلة الطفولة البشرية؟
قالت المؤلفة الرئيسية للدراسة الجديدة، إلاريا بريتيلي (Ilaria Pretelli)، لموقع بوبيولار ساينس (Popular Science): "إن تاريخ المراحل الأولى من حياة الإنسان فريد للغاية من ناحية أن الطفولة، كمرحلة محدودة بحدثين هما الفطام وظهور التغيرات الفيزيولوجية والاجتماعية التي تؤدي إلى اكتمال النمو، هي فترة يتفرّد بها البشر. بريتيلي هي طالبة في مرحلة الدكتوراة في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في ألمانيا، وتدرس حالياً نظرية تاريخ الحياة، وهو مجال البحث في السمات العامة لدورة الحياة.
تميل الحيوانات الأخرى للانتقال من فترة الحضانة إلى البلوغ بسلاسة أكبر بكثير من البشر، ما يعني أن المرحلة الانتقالية بين مرحلتي الاعتماد على الآباء والبلوغ والاكتفاء الذاتي تكون قصيرة. تقول بريتيلي: "أما صغار البشر، فهم يقضون العديد من السنوات دون أن يفعلوا أي شيء من الناحية الحيوية. تتباطأ عملية النمو الجسدي لدى الأطفال، وهم يلعبون ويقلّدون عادات البالغين ويساعدون مقدمي الرعاية ويخوضون مختلف التجارب ويتعلّمون".
قامت بريتيلي وزملاؤها في الدراسة بتصميم مجموعة بيانات مستمدة من الأبحاث المنشورة سابقاً والمتعلقة بعوائد عملية الجمع، أي عدد العناصر التي يمكن للطفل أو المراهق العثور عليها في أثناء عملية الجمع. تضمنت هذه المجموعة بيانات تعود إلى 714 طفلاً ومراهقاً يمثّلون 28 مجتمعاً من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك شعوب الكري والإنويت من أميركا الشمالية وشعب هازدا من تنزانيا ومارتو من أستراليا.
تضمّنت الدراسة 4 أنواع من الموارد التي تتفاوت صعوبة جمعها. النوعان اللذان يعتبر جمعهما الأكثر سهولة هما الفواكه والموارد البحرية؛ وذلك لأن جمع هذه الموارد يتطلب قدراً أقل من القوة الجسدية والمعرفة. بالمقابل، تعتبر الطرائد والدرنات (نوع خاص من جذوع النباتات) العناصر التي يعتبر تجميعها الأكثر تعقيداً نظراً لأنه يتطلب استخدام أدوات خاصة (مثل القوس والأسهم) والمعرفة والقوة الجسدية.
وفقاً للدراسة الجديدة، تزداد عوائد الجمع باطراد خلال الطفولة والمراهقة. إذ تبلغ إنتاجية الأطفال عند سن الخامسة وسطياً نسبة 20% من الإنتاجية التي سيصلون إليها عندما تصبح أعمارهم 20 سنة، وتبلغ نفس النسبة 50% عند سن العاشرة.
اقرأ أيضاً: جانب آخر من نظرية التطور: كيف طور أسلافنا الذكاء الجماعي؟
ازدادت عوائد الموارد التي يسهل جمعها (مثل الفواكه والأسماك والمحار) بسرعة خلال الطفولة وصولاً إلى مرحلة المراهقة، ثم تراجعت. بينما استمرت عوائد العناصر مثل الطرائد والدرنات بالازدياد بانتظام خلال مرحلة المراهقة. يبيّن ذلك أن إتقان جمع الطعام يتطلب فترات أطول من التدريب، ما يدعم الفرضية التي تنص على أن طفولة البشر الطويلة قد تعود جزئياً إلى الحاجة لتعلّم استخراج الموارد صعبة الجمع.
تباين سرعة التعلم بين البشر
قالت بريتيلي: "المثير للاهتمام للغاية في النتائج الجديدة هو التباين الذي تكشفه. لقد درسنا مختلف المجتمعات وأنواع الموارد، وعلى الرغم من وجود اختلافات أساسية على مستوى الموارد، يوجد تباين كبير من الناحية العملية في سرعة تعلم جمع الطعام"، وأضافت: "لسوء الحظ، يعني ذلك أن دراسة نوع واحد من الموارد في جماعة بشرية واحدة لرسم الاستنتاجات عن تطور تاريخ حياة البشر ليس ممكناً. وذلك لأن سلوك الجماعات البشرية قد يختلف كثيراً، ما سيدحض النتائج". ركّزت بريتيلي على الحاجة لتجميع البيانات الطولية التي تعود لعدد من المجتمعات المختلفة، والاهتمام بالتفاصيل الإثنوغرافية (أي المتعلقة بأعراق البشر) لفهم عملية جمع الطعام بشكل أفضل.
تدعم نتائج الدراسة الجديدة أحد المبادئ الأساسية لفكرة أنثروبولوجيّة تحمل اسم نظرية رأس المال المتجسّد، والتي تنص على أنه ربما تطوّرت مرحلة النمو الطويلة التي يمر بها البشر خلال الطفولة بسبب الحاجة لتعلم مهارات جمع الطعام المعقّدة.
اقرأ أيضاً: هكذا تطور البشر: إلى أي اتجاه سيأخذنا التطور في المستقبل؟
قالت بريتيلي: "لا زلنا نحاول كشف أسرار العمليات التي تحكم تطور تاريخ حياة البشر. ونحن نهدف إلى كشف أهمية الإدراك في عملية الجمع. كما أني أرغب في دراسة النواحي الاجتماعية لجمع الطعام والدور الذي يؤديه الأطفال في دعم عائلاتهم".