ربما كان حب البشر للخبز والمعكرونة والأرز والكربوهيدرات الأخرى ناتجاً عن الحمض النووي القديم. يعرف العلماء منذ زمن طويل أن البشر يحملون عدة نسخ من الجينات التي تتيح بدء تحليل الكربوهيدرات المعقدة في الفم. هذه الخطوة الأولى في استقلاب الأطعمة النشوية موثقة جيداً، أما تحديد كيفية توسّع مجموعة الجينات المعالجة للكربوهيدرات ومتى حدث ذلك فهو صعب.
يشير بحث جديد إلى أن التضاعف المبكر لجين الأميلاز اللعابي (AMY1) ربما بدأ منذ أكثر من 800 ألف سنة، أي قبل بدء ممارسة الزراعة بوقت طويل. أفسحت هذه التضاعفات المجال أمام التباينات الجينية الواسعة التي لا تزال موجودة حتى اليوم، والتي تساعد البشر على هضم الأطعمة النشوية. فصّل العلماء نتائج البحث الجديد في دراسة وردت في العدد الإلكتروني المتقدم من مجلة ساينس (Science) بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2024.
السر في الأميلاز
الأميلاز هو إنزيم هضمي يحلل النشاء ليتحول في النهاية إلى غلوكوز يستخدمه الجسم لتوليد الطاقة. يركّب الجسم هذا الإنزيم في البنكرياس والغدد اللعابية، وهو الإنزيم الذي يمنح الخبر نكهته.
قال عالم الأنثروبولوجيا التطورية في جامعة بوفالو والمؤلف المشارك للدراسة، أومار غوتشمان، في بيان صحفي: "تكمن الفكرة في أن القدرة على تركيب الأميلاز تزداد مع ازدياد عدد جينات الأميلاز، وكذلك كمية النشاء التي يمكن هضمها بفعالية".
اقرأ أيضاً: ما هو الفرق بين سكر الفاكهة والسكر الأبيض؟ وأيهما أفضل للصحة؟
استخدم غوتشمان في الدراسة تقنية التخطيط الجينومي البصري والتسلسل الطويل القراءة لرسم خريطة لمنطقة الأميلاز اللعابي الجينية. طرق التسلسل القصير القراءة غير دقيقة عادة في التمييز بين نسخ الجينات في هذه المنطقة؛ لأن سلاسل هذه الجينات تكون متطابقة تقريباً فيها. أتاح التسلسل الطويل القراءة للفريق فحص جينات البشر المعاصرين والتوصل إلى فهم أوضح لكيفية تطور تضاعفات الأميلاز اللعابي بمرور الوقت.
حلل الباحثون جينومات 68 إنساناً قديماً، تشمل عينة من سيبيريا تبلغ من العمر 45 ألف سنة. لاحظ هؤلاء أن البشر في مرحلة الجمع والصيد تمتعوا بالفعل بما يتراوح بين 4 و8 نسخ في المتوسط لكل خلية ثنائية الصيغة الصبغية (أي التي تحتوي على مجموعتين مكتملتين من الصبغيات) قبل اختراع الزراعة. يشير ذلك إلى أن البشر المبكّرين في أوراسيا تمتعوا بتنوّع كبير في نسخ الأميلاز اللعابي قبل تدجين النباتات، مثل القمح، وزيادة مدخولهم من النشاء بكثير.
اكتشف الفريق أيضاً أن تضاعفات جين الأميلاز اللعابي ظهرت في الإنسان البدائي (النياندرتال) وإنسان دينيسوفا.
قال عالم البيولوجيا الحاسوبية في مختبر جاكسون للطب الجينومي في ولاية كونكتيكت الأميركية والمؤلف المشارك للدراسة، كووندو كِم، في بيان صحفي: "يشير ذلك إلى أن جين الأميلاز اللعابي ربما تضاعف أول مرة منذ أكثر من 800 ألف سنة، أي قبل فترة طويلة من انفصال البشر عن الإنسان البدائي، وأن هذا الحدث أقدم بكثير مما اعتقد العلماء سابقاً".
وفقاً للفريق، وضعت هذه التضاعفات الأولية في جينوم البشر أسس التباينات الكبيرة في منطقة الأميلاز الجينية، كما أتاحت لنوعنا التكيف مع التغيرات الكبيرة في النظام الغذائي مع الارتفاع الكبير في معدل استهلاك النشاء.
تحفيز التباين الجيني
كان هذا التضاعف الأولي لجين الأميلاز اللعابي الخطوة الأولى في سلسلة أتاحت إمكانات جينية كبيرة أسهمت لاحقاً في جعل البشر بشراً. مع انتشار البشر إلى بيئات أبرد أو أكثر دفئاً تحتوي على مصادر مختلفة للغذاء، أتاح لهم التفاوت في عدد النسخ من جين الأميلاز اللعابي التكيف مع الأنظمة الغذائية الجديدة، خاصة تلك الغنية بالنشاء.
قالت المؤلفة المشاركة للدراسة وخبيرة الوراثة التطورية في جامعة بوفالو، خاريكليا كارايوريو، في بيان صحفي: "بعد التضاعف الأولي الذي أدى إلى تشكّل ثلاث نسخ من جين الأميلاز اللعابي في الخلية، أصبح موضع الجين غير مستقر وبدأ بتشكيل تباينات جديدة. ينشأ عدد من النسخ يصل إلى 9 نسخ من 3 نسخ فقط من جين الأميلاز اللعابي، وقد تنشأ نسخة واحدة فقط لكل خلية أحادية الصيغة الصبغية".
تبين الدراسة الجديدة أيضاً كيف أثرت الزراعة نفسها في تباين جين الأميلاز اللعابي. تمتّع الصيادون جامعو الثمار الأوائل بنسخ متعددة من هذا الجين، لكن المزارعين الأوروبيين الأوائل شهدوا زيادة كبيرة في العدد المتوسط للنسخ على مدى الألفيات الأربع الأخيرة. يعود ذلك على الأرجح إلى الأنظمة الغذائية الغنية بالنشاء التي اتبعها هؤلاء. بيّنت أبحاث سابقة أن الحيوانات المدجّنة التي عاشت مع البشر تتمتع أيضاً بأعداد أكبر من نسخ جين الأميلاز اللعابي مقارنة بالحيوانات التي لا تعتمد على الأنظمة الغذائية الغنية بالنشاء.
قال غوتشمان: "على الأرجح كان الأفراد الذين تمتعوا بأعداد أكبر من نسخ هذا الجين قادرين على هضم النشاء بكفاءة أكبر، وأنجبوا المزيد من الأولاد. في نهاية المطاف، تمتعت سلالات هؤلاء الأفراد بأفضلية تطورية على مدى فترة زمنية طويلة مقارنة بالسلالات التي تمتّعت بأعداد أقل من النسخ، ما أدى إلى انتشار العدد الكبير من نسخ جين الأميلاز اللعابي".
اقرأ أيضاً: أخطاء شائعة في أثناء تناول الطعام تؤثّر في الهضم وكيفية تصحيحها
النتائج الجديدة متوافقة أيضاً مع نتائج دراسة صدرت في سبتمبر/أيلول 2024 اكتشف فيها العلماء أن العدد الوسطي لنسخ جين الأميلاز اللعابي لدى البشر في أوروبا ازداد من أربع نسخ إلى سبع نسخ على مدى الـ 12 ألف سنة الماضية.
قالت عالمة الحوسبة في مختبر جاكسون والمؤلفة المشاركة للدراسة الجديدة، فيزا يلماز، في بيان صحفي: "بالنظر إلى الدور المهم الذي يؤديه تباين عدد النسخ من جين الأميلاز اللعابي في تطور البشر، فإن دراسة هذا التباين الجيني هي فرصة مثيرة لاستكشاف تأثير هذا الجين في الصحة الاستقلابية واكتشاف الآليات التي تؤدي دوراً في هضم النشاء واستقلاب الغلوكوز. قد تكشف الأبحاث المستقبلية عن التأثيرات الدقيقة لهذا الجين والتوقيت الأمثل لظهور تأثيرات تباينه، ما سيوفر رؤى ثاقبة مهمة في علم الوراثة والتغذية والصحة".