يتمركز أول جهاز لمحاكاة الغلاف الجوي للمحيطات داخل مبنى خشبي ضخم في سان دييغو بكاليفورنيا على بُعد خطوات فقط من أمواج المحيط الهادئ، مستعداً للبدء في العمل. بضغطة زر واحدة، يعلو هدير الأمواج التي يبلغ ارتفاعها متراً، متدفقةً عبر خزان يبلغ طوله 37 متراً مجهزٍ بمجموعة من أجهزة الاستشعار والأضواء وأجهزة الكمبيوتر.
يقوم جهاز سكريبس لمحاكاة الغلاف الجوي للمحيطات، والذي يُشار إليه اختصاراً بـ (SOARS)، بمحاكاة تفاعل عوامل الطقس والماء والملوحة والكيمياء والحياة البحرية الميكروبية على سطح البحر في بيئة معملية. طوّر المحكي وصممه معهد سكريبس لعلوم المحيطات بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو، حيث يمكن لهذه البيئة الحيوية المصغرة توليد موجات كبيرة وإنشاء رياح قوية عاصفة والتحكم في درجة حرارة الهواء والماء لمحاكاة الظروف القطبية والمدارية، وتحفيز نمو العوالق النباتية مع مجموعة متنوعة من الأنواع.
بالإضافة إلى ذلك، يتيح محاكي "SOARS" للباحثين اختبار العديد من المتغيرات مثل غازات الاحتباس الحراري وملوثات الهواء الأخرى لإجراء دراسات حول سيناريوهات المناخ المستقبلية.
محاكي الغلاف الجوي سكريبس
مع إمكانية مطابقة وإعادة إنتاج الظروف الفيزيائية والحيوية والكيميائية عبر البحار السبعة، وكذلك عبر الزمن نفسه، يهدف المحاكي إلى أن يكون بمثابة حافز للاستكشاف متعدد التخصصات للمحيطات، وفقاً للفريق الذي يقوم بتشغيله. وبشكل أكثر تحديداً، يمتلك المحاكي القدرة على تعميق فهمنا للتفاعلات بين البحر والغلاف الجوي خصوصاً بالنظر إلى الأثر الكبير لهذه التفاعلات على كوكب الأرض.
ما يحدث على سطح الماء لا يقل أهمية عما يحدث تحته.
تم بناء مختبر "سيو هايدروليكس" (SIO Hydraulics)، والذي يستضيف محاكي SOARS، عام 1964 خصيصاً لهذا النوع من الأجهزة التجريبية الضخمة. احتوى المختبر على مدى عقودٍ مضت على أحواض وقنواتٍ متنوعة لتوليد الأمواج، وخزاناتٍ للمياه وأنفاقٍ أبسط لتوليد الرياح. مع تقادم المعدات وإيقاف تشغيلها تدريجياً، تفسح الجامعة المجال للاعتماد على أدواتٍ أكثر تقدماً، مثل جهاز المحاكاة الجديد.
يقول عالم المحيطات في معهد سكريبس والباحث الرئيسي في SOARS ديل ستوكس: «محاكٍ SOARS فريد تماماً وهو الأول من نوعه. هناك أجهزة محاكاة أخرى للأمواج أو للرياح، ولكنها لا توفر التحكم والتعقيد الذي يتمتع به محاكي SOARS، ناهيك عن قدرته على محاكاة سطح البحر في أي مكانٍ على هذا الكوكب».
اقرأ أيضاً: تحلية المياه: تقنية تبدع فيها دول الشرق الأوسط
تم تمويل جهاز المحاكاة الذي استغرق بناؤه 5 سنوات بشكلٍ أساسي من خلال منحة قدرها 2.8 مليون دولار من مؤسسة العلوم الوطنية، وشيّدته شركة "إيرولاب" (Aerolab) لتصنيع أنفاق الرياح. في الحقيقة، نادراً ما كان بول فاسيليسكو، نائب الرئيس في شركة إيرولاب والمهندس الرئيسي لشركة SOARS، يُعجب جداً بأحد اختراعاته.
يقول فاسيليسكو: «لقد بدأنا بتطوير هذا المحاكي من الصفر من حيث التصميم العام. من المثير حقاً أن تكون قادراً على ابتكار هذه الآلة وتمكين نوع البحث الذي سيتمكن معهد سكريبس من القيام به».
يُملأ خزان المياه المالحة الذي يتسع لـ 36 ألف جالون مباشرة من خليج "لاجولا كوف" في سان دييغو. الخزان مجهز بمجدافٍ كبير يولد موجات عند تشغيله ويُضاء بواسطة المناور القابلة للتعديل والمصابيح المتوهجة التي تحاكي الضوء الطبيعي الذي يضرب سطح البحر.
دراسة النظم البحرية
بالنسبة للنُظم البيئية البحرية، فإن ما يحدث على سطح الماء لا يقل أهمية عما يحدث تحته. كانت دراسة الحدود الجوية البحرية، أي حيث يتقاطع الغلاف الجوي والمحيط، الدافع الرئيسي وراء تطوير جهاز المحاكاة. ونظراً لأنها إحدى أكثر البيئات ديناميكية من الناحية الكيميائية والفيزيائية على وجه الأرض، فإن للحدود الجوية البحرية أهمية كبيرة للحياة في المحيطات، وبالطبع لكل مكان آخر.
يقول عالم المحيطات في سكريبس والباحث الرئيسي المشارك في SOARS جرانت دين: «إنها مكان خاص، مكانٌ يتفاعل فيه الماء والهواء. نظراً لأن الحدود الجوية البحرية تغطي 71% من الأرض، فإن ما يحدث فيها مرتبط بمصير الكوكب. في الواقع، يمر نحو 90% من الحرارة التي تخزنها غازات الدفيئة الزائدة، وثلث ثاني أوكسيد الكربون الذي يُطلق على الكوكب، يمر عبر هذه الحدود إلى المحيط. لذا فإن تأثيرها مهم للغاية على الطقس والمناخ».
عندما تتبخر المياه والجسيمات الأخرى من الحدود الجوية البحرية هذه، فإنها تتكثف وتعمل على تكوين الغيوم أو البخار. ثم تعود هذه المياه إلى الأرض من خلال هطول الأمطار لتسهم في استمرار حياة النباتات والميكروبات والحيوانات والبشر.
كان علماء الأحياء البحرية وعلماء آخرون في الماضي يجرون أبحاثهم المتعلقة بالحدود الجوية البحرية على متن السفن وأجهزة الكمبيوتر المتطورة. لكن دراسة الديناميكيات الكيميائية والفيزيائية الدقيقة على سطح الماء في ظل رحمة الطبيعة الأم يمكن أن تمثل تحدياً كبيراً، ناهيك عن تكلفتها الباهظة. على الرغم من أن فريق SOARS يقول إن جهاز المحاكاة لا يُقصد به أن يحل محل دراسات استكشاف المحيطات، فإنه يمكن أن يكون بمثابة جسر بين بيئة المختبر والعناصر الموجودة في البيئة الحقيقية.
تيموثي بيرترام، الكيميائي المتخصص بالغلاف الجوي في جامعة ويسكونسن، هو أحد العلماء المتحمسين لرؤية محاكي SOARS أثناء العمل والاستفادة منه في تحقيقه القادم حول الحدود الجوية البحرية.
يقول بيرترام: «تعد الحدود البيئية واحدة من أكثر مجالات البحث إثارة بالنظر إلى أنها المكان الذي يتم فيه تبادل الكتلة والطاقة بين أجزاء من أنظمة الأرض. ومع ذلك، من الصعب دراسة العمليات في هذه الواجهات بطريقة منهجية ومنضبطة. سوف يجذب SOARS الاهتمام في عدد كبير من المجالات وسيسمح بالدراسات متعددة التخصصات التي يصعب تنسيقها وتنظيمها في كثير من الأحيان».
اقرأ أيضاً: دراسة حديثة تُظهر الحجم المروّع للمخلّفات البلاستيكية في مياه البحر المتوسط
من أكبر الفرص التي يوفرها المحاكي هي دراسة ما يحدث في القطبين بشكلٍ معمق. على سبيل المثال، تُعتبر الصفائح الجليدية، والتي تعتمد على استقرار المحيطات والغلاف الجوي، من مكونات الحدود الجوية البحرية في مناطق القطب الشمالي. ومع قدرة محاكي SOARS على محاكاة الظروف الباردة هناك، سيتمكن الباحثون من دراسة التفاعلات بين ذوبان الجليد وارتفاع مستوى سطح البحر، بالإضافة إلى انتقال الكائنات الحية الدقيقة من الماء إلى الهواء. يمكن أيضاً للمجموعات المهتمة بدراسة المحيط المتجمد الجنوبي تحويل المحاكي إلى الوضع القطبي أيضاً من خلال خفض حرارة الماء المالح إلى درجة مئوية واحدة وحرارة الرياح إلى 19 درجة مئوية تحت الصفر.
يقول ستوكس: «يمكننا استخدام المحاكي كآلة للزمن أيضاً. حيث يمكننا أن نجعله يحاكي الظروف التي حدثت في الماضي القريب أو يمكننا، على سبيل المثال، زيادة مستويات ثاني أوكسيد الكربون واستكشاف ما يمكن أن يحدث لهذه الكائنات الدقيقة في المستقبل».
من خلال إتاحة الوصول إلى جهاز المحاكاة للكيميائيين وعلماء الأحياء وعلماء المحيطات وغيرهم، يأمل معهد سكريبس ألا يكون محاكي SOARS بمثابة منشأة بحثية مبتكرة وحسب، ولكن أيضاً بمثابة بوتقةٍ ملهمة لمستقبل العلم.
في غضون الأسابيع القليلة المقبلة، سيعمل دين وستوكس وفاسيليسكو مع باحثين ومخابر خارجية لتهيئة الجهاز لمجموعة متنوعة من التجارب. من المتوقع بالفعل أن تتم ترقية طاقة الرياح في المحاكي لتقليد الأعاصير والعواصف الاستوائية بشكل أفضل، حيث قد يؤدي ذلك إلى تحسين محاكاة هياكل العالم الحقيقي لتتحمل الأحداث المناخية المتطرفة التي باتت أكثر تواتراً بمرور الوقت.
يقول دين: «على الرغم من أنه لا يوجد محاكٍ آخر مثل SOARS على هذا الكوكب، فإننا نأمل حقاً في أن تكون لدى الدول الأخرى الرغبة بإنشاء المحاكي الخاص بها. المحيط هو نظام معقّد للغاية، ولا مشكلة إذا قسمنا أبحاثنا إلى أجزاء أو مجالاتٍ مختلفة. يمكننا تحقيق الكثير باستخدام جهاز المحاكاة الخاص بكل منا، ولكن يمكننا تحقيق المزيد إذا تم إعادة إنتاج هذا الجهد والتعاون فيما بيننا».