عندما تنظر من النافذة أو فوقك، ربما تلاحظ السحب الضخمة أو كمية الهواء الهائلة. لقد لاحظ العلماء ذلك أيضاً؛ فقد أصبحت كتل الهواء والسحب الضخمة محور النماذج التي يستخدمونها لمراقبة الغلاف الجوي للأرض.
من السهل ألا تلاحظ قطرات السائل الصغيرة أو الجزيئات الصلبة التي تطفو في السماء الزرقاء، والمعروفة أيضاً بالهباء الجوي. لكن على الرغم من أنها غالباً ما تكون غير مرئية، إلا أنها ضرورية لطريقة عمل غلافنا الجوي. في الواقع، يحتوي كل جزء من الهواء من حولك على الكثير من العوالق الجوية، وقد تمثل الأساس الذي تعتمد عليه عملية تشكل الغيوم، أو قد تتراكم مع بعضها لتشكل ضباباً دخانياً يلف المدينة ويخنقها.
الهباء الجوي
ما يزال الهباء الجوي أحد الخصائص غير المفهومة جيداً للغلاف الجوي للأرض، ولكن من الواضح أنه لا يطفو ببساطة في الغلاف الجوي دون أن تكون له عواقب. تتسبب الشمس بحركة الرياح التي تحمل جسيمات الهباء الجوي، وأثناء ذلك، يمكن لضوئها أن يفككها. علاوة على ذلك، يمكن للضوء أن ينكسر ويرتد عند مروره خلال الهباء الجوي كما لو أنه يمر عبر عدسة، ما يسرع عملية تدمير الهباء الجوي.
راقب العلماء هذا التأثير الأخير بالتفصيل لأول مرة وفقاً لما ذكروه في ورقةٍ بحثية نُشرت في دورية «ساينس» في 15 أبريل/نيسان. هذه العمليات- كيف يؤثر ضوء الشمس على الهباء الجوي ويفككه- ضرورية لفهم حدوث التلوث.
يقول بابلو كورال أرويو، الكيميائي في المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ بسويسرا وأحد مؤلفي الورقة العلمية: «يمكن أن يكون لهذه العملية تأثيرات كبيرة على كيمياء الهباء الجوي، ويمكن أن تحدث التفاعلات بشكل أسرع في بعض أجزاء الجسيمات مقارنة بأجزاء أخرى».
ربما سمعت بأن الهباء الجوي هو أحد عوامل نقل فيروس كورونا، ولكن ذلك ينطبق على نوع فرعي واحد فقط. في الحقيقة، 90% من مكونات الهباء الجوي طبيعية، مثل ملح البحر والرماد البركاني، وتشكلت من خلال سلسلة من العمليات بدأت قبل ظهور البشر بوقت طويل. بينما نشأ الهباء الجوي المتبقي نتيجة النشاط البشري: من انبعاثات السيارات والسخام الناتج عن احتراق المادة النباتية والغبار الذي تقذفه الآلات في الهواء.
اقرأ أيضاً: هل يؤثر تلوث الهواء على معدل وفيات فيروس كورونا؟
ما الذي يخبرنا به الهباء الجوي عن سلوك ضوء الشمس؟
مجال دراسة الهباء الجوي ليس جديداً كلياً، فقد كان العلماء يعرفون على وجه الخصوص بأن ضوء الشمس يمكن أن يبدد الهباء الجوي عن طريق تفكيك جسيماته وتقليص حجمها. يتسبب الضوء، خصوصاً الأشعة فوق البنفسجية، في تآكل الروابط الكيميائية التي تربط جزيئات الهباء الجوي ببعضها بعضاً، وقد يتسبب ذلك في تقلص حجمه أو تفكك مكوناته إلى مواد أخرى.
لكن العلماء باتوا يدركون الآن أن الهباء الجوي يمكن أن يسلك سلوكاً مختلفاً يمكن أن يكون له تأثيرات كبيرة. يقول كريستيان جورج، الكيميائي المتخصص في الغلاف الجوي في جامعة كلود برنارد ليون في فرنسا، والذي لم يكن عضواً في فريق البحث: «علينا توخي الحذر في كيفية التعامل مع الجسيمات الصغيرة التي تطفو في الهواء، إذ لا يمكننا اعتبار أنها تشبه المياه أو السوائل السائبة».
اقرأ أيضاً: كيف يؤثر تلوث الهواء على إنتاج النباتات وأمننا الغذائي؟
على سبيل المثال، الشيء الذي بدأ العلماء بإدراكه الآن هو أن الجسيمات تعمل مثل العدسات، تضخّم وتزيد من شدة الضوء الذي يمر عبرها، ما يسرع من عملية تلاشيها إذا كان الهباء الجوي مكوناً من مواد معينة. لقد تبين للعلماء إمكانية حدوث مثل هذا الأمر، فقد قاموا في التجارب السابقة بحبس جزيئات صغيرة تحتوي على الصباغ في الضوء وشاهدوها كيف تتفكك. وقد اكتشفوا أنه كلما كانت الجسيمات أصغر، زادت سرعة تحلل الصبغة.
لكن محاولة ملاحظة كيفية عمل هذا التأثير في الواقع، ومحاولة النظر داخل القطيرات ومعرفة كيفية حدوث رد الفعل المتسارع، أمر صعب. يجب أن يكون حجم الجسيم مناسباً تماماً لتتمكن من رؤيته بالداخل: فإذا كان كبيراً جداً فلن تستطيع المعدات رؤيته، حتى باستخدام مجهر الأشعة السينية، كما فعل هؤلاء الباحثون. أما إذا كان صغيراً جداً، فستكون الاختلافات في التركيب الكيميائي صغيرة جداً بحيث يتعذر رؤيتها.
للنظر إلى ما يمكن رؤيته، استخدم هؤلاء الباحثون مادة كيميائية تسمى «سيترات الحديد» (Iron (III) citrate)، وهي مادة موجودة في الغلاف الجوي وخصوصاً بالقرب من الأرض. لكن الباحثين اختاروها في الأساس لأنها عندما تتفاعل مع ضوء الشمس، فإنها تتحلل إلى مادة كيميائية أخرى تُدعى «سيترات الحديدوي» (iron(II) citrate)، حيث يمكن رؤية هذا التفاعل بسهولة شريطة أن تتم مراقبته عن كثب بما فيه الكفاية.
تتبع التركيب الكيميائي للملوثات
قام كورال أرويو وزملاؤه بتعريض جزيئات سيترات الحديدي للأشعة فوق البنفسجية لساعات طويلة مستمرة. وفي هذه الأثناء، راقبوا الجسيمات بعناية باستخدام مجهر الأشعة السينية، حيث تسمح لهم الأشعة السينية بمعرفة أي الأجزاء من الجسيم الفردي- أقل من عرض شعرة الإنسان بمئة مرة- كانت تتفاعل ومتى.
يقول كورال أرويو: «بالفعل، لقد سمح لنا ذلك بتتبع التركيب الكيميائي في أجزاء مختلفة من الجسيم».
الآن، وبعد أن رأوا كيف يفكك الضوء الجسيمات من الداخل، ربما يحاول الكيميائيون اكتشاف السلوك الذي يسلكه الضوء في أنواع مختلفة من الهباء الجوي. في الحقيقة، يختلف سلوك وكيفية تفكك الجسيمات والقطيرات المختلفة عند تعرضها لأشعة الشمس. على سبيل المثال، تميل جسيمات السخام الكربوني الأسود الناتج عن حرق الفحم والجزيئات الداكنة الأخرى إلى امتصاص الضوء أكثر بدلاً من السماح له بالمرور والانعكاس بين الجسيمات.
من ناحية أخرى، فإن التفاعلات تتسارع في حالة ملح البحر والعديد من أنواع الهباء الجوي الأخرى. إن إدراك أن هذا يحدث في الجزيئات له آثار كبيرة على النماذج التي يستخدمها العلماء لفهم سلوك التلوث.
يقول كورال أرويو: «إذا أردنا الحصول على نماذج دقيقة حقاً، يجب أخذ هذه التأثيرات بعين الاعتبار، وإلا فإن النموذج لن يعمل بشكلٍ صحيح».
في الواقع، تركز معظم نماذج الغلاف الجوي الحالية بشكل أساسي على كتل الهواء والماء الكبيرة. يقول جورج: «تُظهر هذه الورقة البحثية أنه لا يمكننا الاستمرار باستخدام النماذج المناخية كما نفعل الآن. إذا كانت مثل هذه التأثيرات مهمة، ومؤلفو الدراسة يؤكدون ذلك، فهذه دلالةٌ على أن هذه النماذج، والتي تُعتبر ضرورية جداً لشتى الأغراض مثل التنبؤ بالطقس وفهم تغير المناخ، غير مكتملة».