هل الإنجاب يطيل العمر حقاً كما تقترح هذه الدراسة الحديثة؟

4 دقيقة
هل الإنجاب يطيل العمر حقاً كما تقترح هذه الدراسة الحديثة؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/ Min C. Chiu
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قيل إن إنجاب الأطفال يقصِّر العمر. وعلى ما يبدو، فإن هذا صحيح إلى حدٍّ ما، وفق ما توصلت إليه دراسة منشورة في دورية ساينس أدفانسيس (Science Advances) في ديسمبر/كانون الأول من عام 2023. فوفقاً للدراسة، فإن الجينات التي تعزز التكاثر غالباً ما تقصِّر العمر، لكن هذا لا يعني أن الامتناع عن الإنجاب سيطيل العمر أكثر، وإنما يتعلق الأمر بالمفاضلة التي يقوم بها الجسم لا إرادياً ما بين التضحية بالصحة على المدى الطويل من أجل زيادة النجاح الإنجابي على المدى القصير. فما الذي توصلت إليه الدراسة بالتحديد؟

اقرأ أيضاً: باحثون يكتشفون الأسباب المحتملة للتسمم الحملي تمهيداً لتطوير علاج مناسب

دراسة جديدة: الطفرات الجينية التي تعزز التكاثر تميلُ إلى تقصير العمر

وجدت الدراسة السابق ذكرها وجود علاقة وراثية قوية وسلبية بين الصفات الإنجابية والشيخوخة؛ أي أن الجينات المتعددة الأنماط الظاهرية (يشير مفهوم تعدد الأنماط الظاهرية إلى أن طفرة جينية واحدة يمكن أن تؤثّر في العديد من السمات) التي تعزز التكاثر تميلُ إلى تقصير العمر، بالإضافة إلى أن الأفراد الذين يحملون طفرات وراثية تمنحهم معدلات إنجابية عالية نسبياً، يمتلكون احتمالات أقل للعيش حتى سن 76 عاماً، مقارنة بأولئك الذين يحملون طفرات وراثية ترتبط بمعدلات إنجاب منخفضة نسبياً.

تدعم نتائج هذه الدراسة الفرضية التي اقترحها عالم التطور جورج ويليامز (George Williams) عام 1957، في ورقته البحثية: “تعدد الأنماط الظاهرية، والانتقاء الطبيعي، وتطور الشيخوخة” (Pleiotropy, Natural Selection, Evolution of Senescence) التي تفسّر سبب تقدم الكائنات الحية في السن، ومفادها أن الانتقاء الطبيعي قد يفضِّل الجينات التي تعزز الشيخوخة في حال كانت تعزز قدرة الكائن الحي على التكاثر في وقتٍ مبكر من الحياة، أو تعزز إنتاج المزيد من النسل.

اقرأ أيضاً: هل تعاني حساسية مرتفعة للألم؟ قد يعود ذلك إلى المتغيرات الجينية للإنسان البدائي

المفهوم الأساسي هو أن الشيخوخة يمكن أن تكون بمثابة مقايضة؛ أي التضحية بالصحة على المدى الطويل من أجل زيادة النجاح الإنجابي على المدى القصير. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن فكرة ويليامز المعروفة بتعدد الأنماط الظاهرية العدائية للشيخوخة (Antagonistic pleiotropy theory of aging) مدعومة بدراسات لحالات فردية، فإنها تفتقر إلى أدلة دامغة على مستوى الجينوم، وهذا ما دفع الباحثَين في هذه الدراسة إلى اختبار هذه الفرضية جينياً، باستخدام الأنماط الجينية والأنماط الظاهرية الإنجابية، وتحليل البيانات الوراثية والصحية لنحو 276,000 مشارك من البنك الحيوي في المملكة المتحدة.

حيث استطاع الباحثان من خلال هذه البيانات تقييم العلاقة الجينية بين التكاثر وعمر الإنسان على المستوى الجينومي؛ إذ فحصا تواتر 583 متغيراً جينياً مرتبطاً بالتكاثر في قاعدة البيانات، ووجدا أن العديد من المتغيرات المرتبطة بزيادة التكاثر أصبحت أكثر شيوعاً في العقود الأخيرة، على الرغم من ارتباطها المتزامن بعمر أقصر. من المفترض أن يكون التكرار المتزايد للمتغيرات ناتجاً عن الانتقاء الطبيعي من أجل تكاثر أعلى.

اقرأ أيضاً: دراسات جديدة تبين الأهمية الكبيرة لهذه المنطقة من دماغ الإنسان

كيف يمكن تفسير نتائج هذه الدراسة؟

تتمثل الفكرة التي طرحها ويليامز في أن الطفرة الجينية نفسها يمكن أن تكون لها آثار مفيدة وضارة في الوقت نفسه، حيث تصبح هذه الظاهرة ذات أهمية خاصة في سياق الشيخوخة؛ إذ قد تمنح الطفرة فوائد عديدة في مراحل مبكرة من الحياة، ما يسهم في النجاح الإنجابي، ولكنها قد تسبب عيوباً أو مشكلات في مراحل لاحقة من الحياة مسببة حدوث الشيخوخة. بكلمات أخرى، قد تعمل التغييرات الجينية على تعزيز اللياقة المبكرة على حساب الشيخوخة المتسارعة.

إذاً، من المرجح وفقاً لهذه الفرضية أن تكون الطفرات الجينية التي تعزز القدرات الإنجابية ولكنها تقصِّر العمر أكثر فائدة من الناحية التطورية. ووفقاً للمؤلف الرئيسي للدراسة أستاذ علم البيئة والبيولوجيا التطورية في جامعة ميشيغان، جيانزي تشانغ (Jianzhi Zhang)، فإن هذه الفرضية تتنبأ بأن الفوائد المكتسبة من حيث تعزيز التكاثر تفوق عيوب تقصير العمر. بمعنى آخر، الطفرات التي تعزز النجاح الإنجابي، حتى لو كانت لها آثار سلبية على طول العمر، تُفضِّل بشكلٍ انتقائي لأنها تسهم في النجاح التطوري الشامل. 

ويقول تشانغ “لا يهتم الانتقاء الطبيعي كثيراً بالمدة التي نعيشها بعد الانتهاء من التكاثر، لأن لياقتنا البدنية تتحدد إلى حدٍّ كبير بنهاية القدرة على التكاثر”. واللياقة البدنية في علم الأحياء هي مقياس لمدى مساهمة سمات الكائن الحي في نجاحه الإنجابي وبقاء نسله، ويعكس في الأساس قدرته على نقل معلوماته الوراثية إلى الجيل التالي.

اقرأ أيضاً: اكتشاف جينات بشرية قد تساعد على علاج السرطان

وفقاً لهذه الدراسة: إنجاب الأطفال يطيل العمر أكثر من عدم الإنجاب

من الأمور المثيرة للاهتمام في الدراسة أنه وبعد حساب أنماط التكاثر المتوقعة وراثياً، وُجِد أن إنجاب طفلين يزيد احتمالية العيش حتى سن الـ 76 أكثر من أولئك الذين لم ينجبوا أو أنجبوا طفلاً أو 3 أطفال، أي أن وجود توازن معين في الخيارات الإنجابية، المتمثل في إنجاب طفلين قد يحسِّن فرص الفرد في حياة أطول. وهذا يؤكد العلاقة المعقدة بين العوامل الوراثية والقرارات الإنجابية والعمر الإجمالي للكائن الحي. لكن يُذكر أن الارتباط لا يعني السببية؛ إذ ثمة العديد من العوامل المؤثّرة المحتملة مثل الحالة الاجتماعية والاقتصادية. 

في الواقع، لقد حدثت على مدى العقود القليلة الماضية تحولات كبيرة من حيث متوسط ​​العمر المتوقع للإنسان، ومعدل المواليد، وأنماط الإنجاب. فأكثر من نصف سكان العالم يقيمون في مناطق تشهد انخفاضاً في معدلات المواليد، ويتزامن هذا التحول مع زيادة انتشار وسائل منع الحمل، وارتفاع معدلات الإجهاض، وارتفاع الاضطرابات الإنجابية. من ناحية أخرى، ارتفع متوسط العمر المتوقع للإنسان عند الولادة على مستوى العالم من 46.5 سنة عام 1950 إلى 72.8 سنة عام 2019، وقد بلغ 82.31 سنة عام 2023 في المملكة المتحدة.

وقد تعزى هذه التغيرات في الخصائص البشرية مثل العمر والسلوك الإنجابي، إلى عوامل بيئية مهمة مثل نمط الحياة والتقدم التكنولوجي والطبي، وليس نتيجة الاختلافات الجينية. إذاً ووفقاً للباحثين، قد تدفع التحولات البيئية الجينات المرتبطة بفترات الحياة الأطول إلى أن تصبح أكثر انتشاراً بمرور الوقت، وهو ما يتحدى المفاهيم السابقة لتعدد الأنماط الظاهرية العدائية.

مختصر الكلام، يتأثر التكاثر وطول العمر بالجينات والعوامل البيئية على السواء، هذا بالإضافة إلى أن العوامل الوراثية التي نُقِشت في الدراسة أدّت دوراً ثانوياً نسبياً في طول العمر مقارنة بالعوامل البيئية.