عندما تشعر الخيول أو الفهود بالحاجة إلى التحرك بسرعة، فإنها تتبع نمطاً من الحركة يُعرف بـ «العدو السريع» (وهو الجري السريع للأحصنة أو الحيوانات رباعية الأرجل، مع رفع الأقدام جميعها عن الأرض في كل خطوة). تلجأ الأرانب للوثب، وتحرك بعض الحيوانات المائية نفسها باستخدام حركات تعتمد على الزعانف، والمعروفة باسم «الإسناد». كل هذه الحركات خاصة، إذ أن توقيت التقاء الأقدام بالأرض أو تحرك الزعانف ليس منتظماً، ما يعني أن الفواصل الزمنية بين حركة كل قدم أو زعنفة ليست متساوية.
ما هو نمط المشي غير المتناظر؟
لا تعتمد كل الحيوانات على هذه الأنواع من الحركات للتحرّك بسرعة. ومع ذلك، وفقاً لما أبلغ عنه العلماء في 8 مارس/آذار 2021 في دورية «علم الأحياء التجريبي»، فإن ما يسمى بـ «المشي غير المتناظر» ليس تكيّفاً جديداً بين الفقاريات. حلل الباحثون حركات مئات الأنواع وخلصوا إلى أن المشي غير المنتظم قد يكون ظهر لأول مرة في الحيوانات القديمة الشبيهة بالأسماك، حتى قبل انتقال الفقاريات من البحر إلى اليابسة. تشير النتائج إلى أن هناك مجموعات من الحيوانات اكتسبت القدرة على استخدام المشي غير المتناظر عبر تاريخ الفقاريات، كما أن هناك حيوانات أخرى فقدت هذه القدرة.
وفقاً لما قاله «جون هتشينسون»، أستاذ الميكانيكا الحيوية التطورية في الكلية الملكية البيطرية في حرم هوكشيد الجامعي في هاتفيلد، إنجلترا، والذي لم يشارك في البحث الجديد، في رسالة عبر البريد الإلكتروني، فعلى الرغم من أنه كان معروفاً نوعاً ما أن الحيوانات البرية قد طورت هذه الحركات بشكل مستقل، إلا أن «الفكرة التي تنص على أن الأسماك ذات الفكين امتلكت هذه القدرة قديماً هي فكرة جديدة نسبياً ومثيرة للاهتمام».
عندما يمشي حيوان أو يهرول، فإنه يحرك أطرافه وفق نمط منتظم تتساوى فيه الفواصل الزمنية بين حركات الأطراف يُعرف بالمشي المتناظر. وكما يقول «إريك ماكلروي»، أستاذ علم الأحياء في كلية تشارلستون في ولاية كارولاينا الجنوبية، والمؤلف المشارك للبحث الجديد، تستطيع العديد من الحيوانات أن تتبع نمط المشي غير المتناظر للتحرّك بسرعة أكبر. أحد الأمثلة المطروقة هو العدو السريع للأحصنة.
الثدييات ليست العداءة الوحيدة!
كتب ماكلروي ومساعده «مايكل غراناتوسكي»، من معهد نيويورك للتكنولوجيا في ويستبري القديمة، في الورقة البحثية أنه أثناء العدو السريع، تلتقي جميع الأقدام الأربعة بالأرض في أوقات مختلفة تكون الفواصل الزمنية بينها غير متساوية. الثدييات ليست الحيوانات العداءة الوحيدة، وقد رصدت بعض أنواع التمساحيات تستخدم هذا النوع من المشي أيضاً.
يمكن للغزلان أن تتبع نوعاً آخر من المشي غير المتناظر يتضمن القفز في الهواء بظهر مقوّس والهبوط على جميع الأقدام الأربعة في وقت واحد. تستخدم الضفادع والأرانب مشياً وثبيّاً أو نصف وثبي، والذي تتلامس فيه القدمان الخلفيتان مع الأرض في نفس الوقت. تقوم أسماك «نطاط الطين» والسلاحف البحرية وبعض أنواع الفقمات بتحريك زعانفها الأمامية في وقت واحد ضمن مشي «إسنادي» للتحرك على البر. بينما تتحرك بعض أسماك الراي والأسماك الأخرى وفق نمط «تجديفي»، محرّكة زعانف الحوض في وقت واحد للانزلاق بسرعة على قاع البحر.
هناك أيضاً بعض الفقاريات التي لا يبدو أنها تستخدم المشي غير المتناظر، مثل السحالي والسلمندر وخلد الماء والقنافذ واللوريسيات والفيلة.
لفهم متى ظهر هذا النمط من المشي لأول مرة، قام ماكلروي وغراناتوسكي بمراجعة الأبحاث حول الحركات التناظرية وغير التناظرية التي أجريت على 308 نوعاً مختلفاً من «الفكيّات»، أو الفقاريات ذات الفكين. تنتمي الغالبية العظمى من الفقاريات الحية اليوم إلى هذه المجموعة، باستثناء الأسماك المخاطية والجَلَكَيات.
اقرأ أيضاً: اختلاط الحيوانات البرية بالبشر جعلها لا تخشى الإفتراس
استخدم الباحثون نماذج حاسوبية للتحقيق في 4 سيناريوهات تطورية مختلفة. في إحداها، كان لدى السلف المشترك للفكيات القدرة على التحرك بشكل غير متناظر، وكان من الممكن أن يفقد أخلافه هذه الميزة دون أن يتمكنوا من استعادتها. افترض الباحثان في نموذج آخر أن الفكيات لا يمكن أن تفقد هذه الميزة بعد اكتسابها، ما يعني أن سلف الفكيات لم يكن يتميّز بنمط مشي غير متناظر.
في النموذج الثالث، ظهر المشي غير المتناظر واختفى بمعدلات متساوية تقريباً عبر شجرة عائلة الفكيّات. بينما لم تكن هذه المعدلات متساوية في النموذج الرابع، ويقول ماكلروي إن هذا سمح للكائنات بأن «تُطوّر المشي غير المتناظر بشكل سريع حقاً، وتفقده ببطء». يضيف ماكلروي: «يمكن أن يكون هناك اختلاف كبير في سرعة التطور بين النمطين المدروسين».
وجد الباحثان أن هذا السيناريو الرابع كان الأكثر ترجيحاً بناءً على كيفية توزيع سمة المشي غير المتناظر عبر أنواع الفقاريات الحديثة، وحسبا أن احتمال امتلاك سلف الفكيات نوعاً ما من المشي غير المتناظرة هو 75% تقريباً.
من البحار إلى اليابسة
من المحتمل أن يكون هذا المخلوق الشبيه بالأسماك قد سكن في البحار الساحلية الضحلة منذ 400 مليون إلى 450 مليون سنة، أي قبل نحو 25-100 مليون سنة من انتقال بعض أخلافه إلى الأرض. يقول ماكلروي إن سلف الفكيات ربما استخدم زعانفه ليستند على قاع البحر أو يجدّف فوقه، مشيراً إلى أن العديد من حفريات الفقاريات الفكية المبكرة تشبه الأسماك الحية اليوم التي تستخدم هذه الحركات، مثل الورنك وسمك الراي.
استنتج الفريق أيضاً أن السلف الذي تطوّرت منه الثدييات الحديثة كانت لديه القدرة على التحرك بشكل غير متناظر على الأرجح، في حين أن أسلاف البرمائيات والسحالي لم تمتلك هذه القدرة غالباً. من غير الواضح سبب فقدان بعض مجموعات الفقاريات المشي غير المتناظر. قد تكون الفيلة أكبر حجماً من أن تعدو بسرعة دون تعريض عظامها لمستويات خطيرة من الإجهاد. بينما قد لا تتمكن بعض أنواع الحيوانات، مثل اللوريسيات والعديد من السلاحف، من التحرّك بالسرعة الكافية لتحتاج إلى المشي غير المتناظر.
اقرأ أيضاً: حفريات جديدة قد تكشف لغز اللحظات الأولى لانقراض الديناصورات
يمكن أن تتحرك السحالي بسرعة كبيرة وفق نمط غير متناظر دون تحريك أطرافها. يقول ماكلروي: «لم أر قط سحلية تعدو بسرعة، وهذا أمر غريب ويشير إلى أن السبب قد يكمن في بنيتها العصبية العضلية»، ويضيف: «أود أن أدرس هذه السحالي جيداً لأكتشف ما إذا كانت غير قادرة على القيام بذلك، أم أنه سلوك نادر جداً، أم أن هناك بعض أنواع السحالي التي يمكنها فعل ذلك، ولكننا لم ندرسها بعد».
تمثل الحيوانات الحية اليوم والبالغ عددها 308 التي فحصها الباحثون جزءاً صغيراً فقط من 69000 نوعاً من الفقاريات. وقال هتشينسون إن هذا قد يقلل من دقة نتائج التحليل الذي أجراه ماكلروي وغراناتوسكي.
يعترف ماكلروي بأن البيانات المتعلقة بأنواع الأسماك الحديثة كانت قليلة نسبياً، ويقول: «تميل الأسماك إلى أن يكون لها تأثير أكبر على عمليات إعادة بناء الأسلاف [التطورية] لأنها أقدم الأنواع»، ويضيف أنها تمثّل «قيداً ومجالاً بحثياً مستقبلياً بنفس الوقت». سيؤدي تفسير أنماط حركة الفقاريات المنقرضة إلى تحسين التقديرات التي قام بها ماكلروي وغراناتوسكي أيضاً، ولكن ليس لدينا ما يكفي من المعلومات عن الطريقة التي كانت تتحرك بها.
قال هتشينسون إنه على الرغم من عيوب هذه الدراسة، «إلا أنها تعد قيّمة لأنها تولّد كمية كبيرة من البيانات باستخدام أدوات تطورية جيدة، كما أنها ستحفّز إجراء المزيد من الدراسات بهدف الإجابة عن الأسئلة التي تثيرها».