إذا أصابك تسمم غذائي بعد تناول البيض، فهناك احتمال كبير أنك لن تتمكن من التفكير بتناول البيض مجدداً إلا بعد زمن. يمكن أن يكون تأثير هذا النفور من الطعام شديداً جداً. فريق من علماء الأعصاب الذين يدرسون الفئران اكتشفوا في أدمغتها "مركز الذاكرة" المسؤول عن رد الفعل هذا. وصف العلماء النتائج في دراسة نشرتها مجلة نيتشر بتاريخ 2 أبريل/نيسان 2025، ويمكن استخدامها في تطوير علاجات سريرية في المستقبل.
"التعلم مرة واحدة" مقابل "التأخير بين الوجبة والتوعك"
التعلم مرة واحدة مختلف عن التعلم من خلال التجربة والخطأ أو التجارب المتكررة؛ إذ إنه يحدث عندما تخلق تجربة واحدة ذاكرة دائمة في الدماغ. يرتبط هذا النوع من التعلم عادة بالأحداث المؤلمة التي تؤدي إلى القلق واضطراب ما بعد الصدمة والذهان.
يمكن أن يحدث شيء مماثل في تجربة التسمم الغذائي، وهو شائع جداً. تشير تقديرات مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها إلى أن التسمم الغذائي يصيب 48 مليون شخص في الولايات المتحدة سنوياً.
قال زميل ما بعد الدكتوراة الرئيسي في معهد برينستون لعلم الأعصاب في جامعة برينستون والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، كريستوفر زيمرمان، في بيان صحفي: "لم أتعرض للتسمم الغذائي منذ زمن، ولكن الأشخاص الذين ألتقي بهم يحدثونني عن تجاربهم في التسمم الغذائي بالتفصيل".
على الرغم من أن هذا النوع من التعلم مرة واحدة شائع في حالات التسمم الغذائي (وهذا ليس غريباً)، فإن الفجوة الزمنية بين تناول الوجبة والإصابة بالتسمم حيرت العلماء. على عكس لمس جسم ساخن والشعور بالألم على الفور، ينطوي التسمم الغذائي على تأخير كبير بين وقت تناول الطعام الملوث والإصابة بالتسمم. يسمي زيمرمان هذا التأخير "التأخير بين الوجبة والتوعك".
اقرأ أيضاً: كيف تُميِّز بين الإصابة بالتسمم الغذائي والنزلة المعوية؟
شرب عصير كول-أيد
لجأ زيمرمان، في محاولة لإلقاء نظرة فاحصة على الآليات الدماغية وراء تجنب بعض الأطعمة المسببة للمرض، إلى عنصر قد يحتوي عليه مخزن مطبخك، وهو مشروب كول-أيد بطعم العنب. لم تتذوق فئران المختبر هذه النكهة المحددة من قبل وعرض العلماء عليها تجربتها.
قال زيمرمان: "هذه طريقة أفضل لنمذجة آلية التعلم لدينا. يستخدم العلماء في هذا المجال عادة السكر فقط، ولكن نكهته ليست نكهة نشعر بها عادة في الطعام. على الرغم من أن مشروب كول-أيد غير نموذجي، فإنه أدق قليلاً لأن نكهته مركبة أكثر"
تعلمت الفئران في النهاية أن دس أنوفها في منطقة خاصة من القفص يؤدي إلى إطلاق قطرة من مشروب كول-أيد. بعد مرور ثلاثين دقيقة من تناول المشروب أول مرة، تلقت الفئران حقنة واحدة سببت توعكاً مؤقتاً يشبه التسمم الغذائي.
عندما منح الباحثون الفئران القدرة على الاختيار بعد يومين، تجنبت الفئران المشروب الأرجواني الذي رغبته في السابق وفضلت الماء العادي.
اللوزة الدماغية المركزية
ما لفت انتباه زيمرمان وعالمة الأعصاب في جامعة برينستون والمؤلفة المشاركة للدراسة، إيلانا ويتن، هو المكان الذي يتشكل فيه هذا الارتباط بين تناول العصير والإصابة بالتسمم في الدماغ: اللوزة الدماغية المركزية. تسهم هذه المجموعة الصغيرة من الخلايا في الجزء السفلي من الدماغ في المشاعر وتعلم الخوف، إضافة إلى أنها تعالج قدراً كبيراً من معلومات الوسط المحيط، مثل تلك المتعلقة بالشم والتذوق.
قال زيمرمان: "إذا نظرت إلى الدماغ بأكمله، وإلى المواقع التي يمثل فيها النكهات الجديدة والنكهات المألوفة، يتبين أن اللوزة الدماغية مكان مثير للاهتمام حقاً لأنها تنشط على نحو تفضيلي بسبب النكهات الجديدة في كل مرحلة من مراحل التعلم. تنشط اللوزة الدماغية عندما يشرب الفأر وعندما يشعر بالغثيان لاحقاً، ثم تنشط أيضاً عندما يستعيد الفأر تلك الذاكرة السلبية بعد أيام".
وفقاً للفريق، تبين هذه النتائج مدى أهمية اللوزة الدماغية المركزية في كل خطوة من خطوات عملية التعلم.
تتبع الفريق بعد ذلك مسار إشارات المرض من القناة الهضمية إلى الدماغ، وحددوا بالاستفادة من نتائج أبحاث سابقة خلايا متخصصة في الدماغ الخلفي تحتوي على بروتين يحمل اسم "الببتيد المرتبط بجين الكالسيتونين"، المتصل مباشرة باللوزة المركزية. أدى تحفيز هذه الخلايا بعد 30 دقيقة من تناول الفأر مشروب كول-أيد إلى إعادة توليد النفور نفسه الذي يولده التسمم الغذائي. تسبب الشعور بالغثيان أيضاً في إعادة تنشيط العصبونات التي تنشطت بعد تناول المشروب.
قال ويتن في بيان صحفي: "يبدو أن الفئران كانت تفكر وتتذكر التجربة السابقة التي جعلتها تشعر بالغثيان لاحقاً. ملاحظة هذه الظاهرة على مستوى العصبونات الفردية مذهلة".
اقرأ أيضاً: 5 مكملات غذائية مدعومة علمياً لتحسين التركيز والذاكرة
الاستفادة من استرجاع الذاكرة
يعتقد الفريق أن النكهات الجديدة قد تؤدي إلى "وسم" خلايا دماغية معينة، ما يجعلها تظل حساسة لإشارات المرض بعد ساعات من تناول الطعام. تتيح هذه الوسوم إعادة تنشيط الخلايا نفسها بسبب المرض وربطها السبب بالنتيجة على الرغم من التأخير الزمني.
وفقاً للفريق، يوفر هذا النوع من الأبحاث فرصاً جديدة لفهم الطريقة التي يتبعها الدماغ لتشكيل الروابط بين مجموعة متنوعة من الأحداث المتباعدة زمنياً.
يقول زيمرمان: "عندما نتعلم في العالم الحقيقي، يكون هناك غالباً تأخير كبير بين الخيار الذي اتبعناه والنتيجة. لكن العلماء لا يدرسون هذه الظاهرة في المختبر عادة، ما يعني أننا نجهل الآليات العصبية وراء هذا النوع من التعلم المتأخر. نأمل أن توفر هذه النتائج إطاراً للتفكير في كيفية استفادة الدماغ من استرجاع الذاكرة لحل مسألة التعلم هذه في حالات أخرى".