صحيح أن التاريخ يقبع في الماضي، ولكن هذا لا يجعل منه جامداً. فقد نُشرت نتائج جديدة مؤخراً في Science Advances حول اكتشاف مجموعة من رؤوس الأسلحة المقذوفة في موقع ديبرا إل فرايدكين ضمن المجمع الأثري في وادي باترميلك في وسط تكساس. وتعود رؤوس الحراب هذه إلى أكثر من 13,500 سنة، مما يجعلها على الأرجح أقدم أسلحة عُثر عليها في أميركا الشمالية على الإطلاق، وهو ما يضيف المزيد من العناصر والتعقيد إلى تصوراتنا السابقة حول أوائل البشر في هذه القارة.
وتعتبر رؤوس الحراب من رموز ثقافة الكلوفيس، وهي ثقافة الصيادين وجامعي الثمار من العصر الحجري القديم في أميركا. وتعود هذه الرؤوس عادة إلى ما بين 13,000 و12,700 سنة، وهي مصنوعة من الحجر على شكل أوراق الشجر، كما أنها مزودة بقاعدة متوسعة تتيح تثبيتها لاستخدامها كرأس حربة، ولهذا فإن اكتشاف رؤوس حراب تعود إلى ما قبل فترة الكلوفيس يعتبر أمراً هاماً.
يقول مايكل ووترز (وهو جيولوجي في جامعة تكساس للزراعة والميكانيك، والمؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة): "يُعتبر هذا الاكتشاف هاماً لأن جميع المواقع التي تعود إلى ما قبل فترة الكلوفيس تقريباً تحوي أدوات حجرية، ولكن لم تُكتشف فيها رؤوس حراب حتى الآن. ولطالما حلمنا باكتشاف أشياء مميزة من ناحية العمر أو الاستخدام -مثل رؤوس الأسلحة المقذوفة- يمكن أن ننسبها إلى فترة ما قبل الكلوفيس". وقد عمل ووترز وزملاؤه على التنقيب في وادي باترميلك لسنوات عديدة، كما يقول: "كنا نأمل أن نعثر على رأس حربة يوماً ما، ولكن علم الآثار لا يقدم لك دائماً ما ترغب".
ولكن يبدو أن الرياح جرت بما تشتهي السفن هذه المرة؛ ففي أحدث عملية تنقيب عثر ووترز وزملاؤه على مئات الآلاف من الأشياء العائدة إلى ما قبل فترة الكلوفيس في موقع وادي باترميلك، بما فيها مئات الأدوات، التي تتضمن رؤوس حراب كاملة ومحطمة تصنف إلى مجموعتين: رؤوس ذات خط مركزي تعود إلى ما بين 13,500 و15,500 سنة، ورؤوس مثلثة تعود إلى ما بين 13,500 و14,000 سنة. وجميعها أقدم من رؤوس الحراب النموذجية من فترة كلوفيس، ومتمايزة عنها.
يقول جوشوا كيني (وهو باحث في جامعة تكساس للزراعة والميكانيك، ومؤلف مشارك في الدراسة): "عندما اكتشفنا رأس حربة سليماً، كدنا نفقد عقولنا. فلم نكن قد رأينا أي شيء مماثل، على الأقل في تكساس!".
ووفقاً لووترز، فإن القاعدة الذهبية في هذا العمل هي العثور على هذه الأشياء في طبقات جيولوجية تحت الطبقات التي توجد فيها الأشياء العائدة إلى كلوفيس. وكلما كانت الطبقة أعمق، كانت الأشياء أقدم. وهو ما حدث بالضبط في هذا الاكتشاف، الذي تم تعزيزه بفضل التوثيق والتأريخ القديم لكامل سجل ما قبل التاريخ في منطقة وسط تكساس. وقام الفريق بتحديد تاريخ هذه الأشياء بشكل أدق باستخدام طريقة التأريخ بالتألق المحفز ضوئياً (OSL)، حيث يُستخدم الضوء للحصول على تأريخ مطلق من الرسوبيات الجيولوجية.
يقول كيني: "من أهم الأسئلة التي بقيت دون إجابة حتى الآن: كيف كان شكل التكنولوجيا من فترة ما قبل كلوفيس؟". تتميز الرؤوس الجديدة باختلافات واضحة عن الرؤوس الكبيرة ذات الشكل الشبيه بأوراق الشجر من فترة كلوفيس، إضافة إلى رؤوس أخرى ذات خط مركزي اكتُشفت في المكسيك وأميركا الجنوبية، مما يجعلها قطعة فريدة من نوعها في أحجية التاريخ البشري.
إذن، ماذا تعني رؤوس الحراب من فترة ما قبل كلوفيس بالنسبة للتاريخ البشري في أميركا الشمالية؟ يؤكد ووترز على أننا نعرف بالتأكيد أن كلوفيس نشأت في أميركا الشمالية، جنوب المناطق الجليدية الشمالية، وأن البشر لم يحملوا رؤوس الحراب التابعة لكلوفيس من ألاسكا إلى المناطق غير المتجلدة من أميركا الشمالية.
هذا يؤدي إذن -وفق ووترز وفريقه- إلى أحد احتمالين لتفسير هذه اللقايا: إما أن رؤوس الحراب في كلوفيس ذات الشكل الورقي تطورت من رؤوس الحراب ذات الخط المركزي التي صنعها أسلاف كلوفيس ممن وجودوا طريقهم إلى المنطقة في وقت سابق، أو أن هجرة أخرى من ثقافة أخرى وصلت إلى المكان في وقت لاحق، حاملةً الشكل المثلث الذي تطور إلى رؤوس حراب كلوفيس.
ويقول كيني إن الاكتشافات الجديدة "تعطي دعماً جديداً للنظرية التي تقول بأنه يحتمل أنه حدثت عدة هجرات إلى العالم الجديد على مدى آلاف السنوات بدلاً من هجرة واحدة، وأن بعض المجموعات الأولى انتقلت إلى تكساس تحديداً. هذه المجموعات تعود إلى فترة ما قبل كلوفيس، ومن المحتمل أنها تحولت إلى كلوفيس".
وتلقي الدراسة الجديدة أيضاً الضوء على تفرّد موقع باترميلك بالنسبة للمهاجرين الأوائل. يقول كيني: "من المرجح أنهم أتوا إلى أماكن مثل فرايدكين بسبب الوفرة الكبيرة في الصوان الممتاز اللازم لصناعة الأدوات الحجرية. في الواقع، توجد الكثير من الأدلة التي تشير إلى أن فرايدكين ظل أحد المواقع ذائعة الصيت للتزود بالأدوات بشكل متواصل على مدى 16,000 سنة".
يقول بين مارويك (عالم آثار في جامعة واشنطن، ولم يشارك في الدراسة): "أعتقد أنهم نفذوا عملاً ممتازاً في تأريخ الرسوبيات في هذه اللقايا، ووضعوا ترتيباً زمنياً موثوقاً. لقد بذلوا الكثير من الجهد، وحصلوا على نتائج تتناسب مع جهدهم، وهنا تكمن قوة هذه الدراسة برأيي".
ومن جهة أخرى، يشير مارويك أيضاً إلى أن هذه النتائج تعاني من بعض المحدودية، حيث يقول: "إن اللقايا الهامة التي بنى المؤلفون نتائجهم عليها قليلة العدد، وهو ما يثير الأسئلة عما إذا كان هذا نمطاً حقيقاً من تكنولوجيا مبكرة لا نعرف عنها الكثير، أو أنه مجرد شيء حدث لمرة واحدة. فقد يكون هذا الاكتشاف ناتجاً عن مجموعة ما من الأشخاص الذين قرَّروا أن يصنعوا أدوات كهذه في جلسة جماعية بعد الظهر".
ويلحظ مارويك أيضاً عدم وجود توصيف قوي في البحث للرواسب الصلصالية، وأن الصور تظهر وجود بعض الشقوق العمودية في الطبقات، ويقول: "يبدو لي أنه يوجد احتمال بأن بعض هذه الأشياء قد تحركت عبر الشقوق نحو الأسفل"، مما يعني أنها ليست بالقدم الذي نعتقده.
وقد عمل مارويك في مواقع أثرية مشابهة في أستراليا، حيث اضطر مع زملائه لأخذ هذه الاحتمالات بعين الاعتبار، والتعامل معها عن طريق التحاليل المجهرية وغيرها من الطرائق. وهو يقول: "أعتقد أن هذه الناحية لم تحظَ بالاهتمام الكافي، وأرغب في رؤية المزيد من الاختبارات والبراهين قبل أن أشعر بالحماس إزاء هذه النتائج".
وأخيراً، يقول مارويك إن من المحتمل أن تكون رؤوس الحراب هذه قد أتت من مجموعة منفصلة من المهاجرين، ولكنه لن يعتمد كثيراً على صحة هذا التفسير، ويقول: "نحن نعرف أنه يمكن لمجموعة واحدة أن تصنع الكثير من الأنواع المختلفة من الأدوات والأشياء. ولا يعني وجود لقايا مختلفة أنها ناتجة عن مجموعات ثقافية مختلفة". ولا يوجد الكثير من المواقع التي يستطيع العلماء العمل فيها في أميركا الشمالية، مما يجعل من الصعب الوصول إلى استنتاجات يمكن أن تنطبق بشكل شامل على تاريخ الإنسان البدائي المهاجر في أميركا الشمالية. ويأمل مارويك بأن إجراء المزيد من الأبحاث قد يساعد على تحديد ما إذا كانت هذه الاكتشافات وما يشبهها جزءاً من نمط حقيقي أو أنها مجرد شذوذ عشوائي في حقل علوم الإنسان.
وبالرغم من هذا فإن مارويك يشعر بالحماس إزاء النتيجة الإجمالية التي تقول بأن التقنيات في أميركا الشمالية أكثر تنوعاً مما كنا نعتقد، ويقول: "إن هذه النتيجة جزء هام للغاية من هذا البحث الجديد".
ويقول ووترز: "إن استيطان البشر للأميركتين خلال نهاية العصر الجليدي الأخير كان عملية معقدة، وهذا التعقيد يبدو واضحاً في السجل الجيني. وقد بدأنا نرى الآن دلالات هذا التعقيد أيضاً في السجل الآثاري".