بعد بضعة أسابيع من يوم الاستقلال الأميركي في 4 يوليو، واستمتاع الكثيرين من الأميركيين بالألعاب النارية المرافقة لهذه المناسبة، كان العلماء المشرفون على عمليات المسح لنظام الإنذار الأخير للاصطدامات الكويكبية الأرضية (اختصاراً: أطلس ATLAS) في هاواي يحدقون بنوع مختلف من الاستعراضات الضوئية: AT2018cow، أو "البقرة cow" وحسب. حدث هذا الانفجار دون سابق إنذار، وأدى إلى توليد كميات هائلة من الضوء والأمواج على مدى عدة أسابيع، واختفى بنفس السرعة.
ولكن ماذا كانت هذه البقرة بالضبط؟ أمضى العلماء الأشهر الستة الماضية في محاولة لإيجاد الإجابة، ويبدو أننا حصلنا على فكرة أفضل حول طبيعة هذه الظاهرة الغامضة، وذلك وفقاً لدراسة جديدة في مجلة The Astrophysical Journal. غير أن الموضوع ما زال غامضاً.
كانت البقرة في الواقع ما يُطلق عليه اسم حدث فلكي عابر، حيث يظهر جسم أو ظاهرة بشكل واضح لفترة زمنية قصيرة، قد تتراوح ما بين عدة ثوانٍ وعدة سنوات، وقد تبدو هذه الفترة طويلة ولكنها تعتبر بمثابة طرفة عين بالمقاييس الفلكية. وعندما ظهر هذا الانفجار المفاجئ والشديد، لم يعرف أحد ما هي طبيعته.
تقول رافايلا مارجوتي، وهي فلكية في جامعة نورث ويسترن، والمؤلفة الأساسية للبحث الجديد الذي يتضمن تفاصيل النتائج: "في ذلك الوقت، واعتماداً على المعلومات التي كانت لدينا، كنا نعرف بوجود قوة وانفجار ساطع، ولكن لم يكن من الواضح ما إذا كان المصدر ضمن مجرتنا أو لا". وقد تمكن فريق بحثي آخر من تأكيد عدم وجود البقرة في مجرتنا، بل في المجرة CGCG 137-068، والتي تبعد حوالي 200 مليون سنة ضوئية في اتجاه كوكبة هيركيوليز. وهكذا، تأكد الفلكيون من أنهم اكتشفوا أقرب جسم عابر من نوعه على الإطلاق.
في البداية، اعتقد الكثيرون أن البقرة كانت مستعراً أعظم، ولكن شدة السطوع كانت هائلة، وتفوق ما هو متوقع بما يتراوح ما بين 10 أضعاف و 100 ضعف، أي أنها كانت ستصبح إحدى أشد المستعرات العظمى المعروفة على الإطلاق. إضافة إلى ذلك، كانت البقرة تطلق جسيمات بعُشر سرعة الضوء، وهو أسرع بكثير مما تستطيع أن تطلقه النجوم المتفجرة. أيضاً، كانت البقرة تزداد شدة بشكل غريب وسريع أثناء مراقبة العلماء لها، وبدأت بالخفوت بعد حوالي أسبوعين من المشاهدات الأولية.
أدركت مارجوتي وفريقها أنهم كانوا ينظرون إلى شيء لم يسبق لأحد أن رأى مثله حقاً. وبدأت بالتواصل مع الآخرين حول العالم والاستعداد لمراقبة البقرة باستخدام مجموعة كبيرة من المعدات، وجمع القياسات على طول الطيف الكهرطيسي، من الأشعة السينية والأشعة السينية الحادة (أشد من الأشعة السينية بعشرة أضعاف) وصولاً إلى الأمواج الراديوية وإشعاعات جاما، وذلك لتقييم الآثار اللاحقة للبقرة بعد سطوعها وبدء خفوتها بفترة طويلة. وكانت هذه الأدوات تتضمن بعثتي ناتستار وسويفت التابعتين لناسا، والمصفوفة تحت المليمترية (إس إم إيه) في هاواي، ومصفوفة أتاكاما المليمترية العملاقة في تشيلي، ومرصد و. م. كيك في موناكيا بهاواي.
تبين أن هذه المقاربة الشمولية هامة لهذه الدراسة. وعلى سبيل المثال، فقد أشار تحليل أولي إلى أن البقرة ناتجة عن تأثير ثقب أسود بحجم ساكن ومحدد على أحد النجوم. كان من الممكن أن يمثل هذا الشرح تفسيراً معقولاً، لو لم تكن الانبعاثات الراديوية من الجسم تبين أن الفضاء يتوسع ضمن بيئة عالية الكثافة، وهو ما لا نتوقع رؤيته حول ثقب أسود محدد الحجم.
كانت قياسات الأشعة السينية الحادة هي ما أثار حماسة الفريق البحثي. فقد لاحظت مارجوتي وفريقها أن الجسم كان يصدر أشعة سينية حادة شديدة السطوع، وهو ما أثار دهشة الجميع. تقول مارجوتي: "كان تفسيرنا الأولي أننا ارتكبنا خطأ ما، وأنه يجب أن نعيد العمل من أجل تحديد المشكلة". ولكن أدوات أخرى أكدت هذه القياسات. لا تظهر هذه الميزة عادة للباحثين الذين يدرسون الأجسام شديدة الكثافة.
غير أن هذه الميزة عادة ما تظهر للفلكيين الذين يدرسون الثقوب السوداء التي تمتص المواد الغازية والصلبة بشكل ثقالي من المنطقة المحيطة بها. وبعد التشاور مع خبراء آخرين، بدأ الفريق بالتفكير باحتمال كون البقرة جسماً كثيفاً جديد الولادة في الواقع.
بشكل أساسي، تعتقد مارجوتي وزملاؤها الآن أن حدث البقرة كان في الواقع ولادة ثقب أسود أو نجم نيوتروني. وستكون هذه المرة الأولى في التاريخ التي تمكن فيها العلماء من رصد حدث كهذا بشكل مباشر. من المرجح أنه ثقب أسود، بما أن الجسم يبدو أنه يسحب المواد من البيئة المحيطة ويشع الطاقة، ولكن العلماء لم يستبعدوا أن هذه العملية قد تكون ناتجة أيضاً عن نجم نيوتروني يتمتع بحقل مغناطيسي شديد. ولمزيد من الشمولية، لم يستبعد الفريق ايضاً احتمال أن تكون البقرة مجرد نوع فريد من نوعه من المستعرات العظمى شديدة الاستطاعة.
ولكن لماذا لم يُحل هذا اللغز حتى الآن؟ لقد كانت البقرة شديدة السطوع بشكل لا يتيح التدقيق فيها. وبعد اختفاء هذا الحدث العابر تماماً، قد يكون أمام الفريق فرصة لإجراء بعض عمليات الرصد للآثار اللاحقة وتحديد المصدر.
ستكون هذه الدراسات المركزة حول البقرة أمراً رائعاً بالنسبة للعلماء الذين يريدون أن يفهموا بشكل أفضل كيف تظهر الأجسام مثل الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية في الكون. تقول مارجوتي: "هذا يعني وجود مجال جديد لدراسة تشكّل هذه الأجسام. إنه مجال لم يكن متاحاً لنا من قبل".
إضافة إلى هذا، تمثل هذه النتائج خطوة كبيرة إلى الأمام في تطور علم الفلك متعدد الأوساط، وهو أسلوب لإجراء الأبحاث الفضائية بالتركيز على رصد الأجسام والظواهر عبر مجموعة واسعة وكبيرة من الإشارات، لرسم صورة أكثر وضوحاً حول سلوكها. وعلى سبيل المثال، يمكن أن نكتشف اندماج الثقوب السوداء عبر التقاط الأمواج الثقالية الناتجة عنها بفضل مشاريع مثل ليجو، ولكن لاحقاً، سيكون من الممكن أن ندرس هذه الأجسام أيضاً عن طريق الإشعاع الكهرطيسي والأشعة الكونية. تقول مارجوتي: "لطالما كنت من الداعين إلى رصد الأحداث العابرة عن طريق استخدام عدة أطوال موجية. أعتقد أن هذه الطريقة ستصبح أكثر أهمية في المستقبل"، خصوصاً مع زيادة دقة التكنولوجيا وفعاليتها في التعامل مع هذا النوع من البيانات.
حالياً، يواصل الفريق مراقبة البقرة وينتظر أن تصل إلى درجة أكبر من الخفوت، ويستعدون لجولة أخرى عم عمليات الرصد خلال الأشهر القليلة المقبلة، ولكنهم يعملون أيضاً على اكتشاف وتوصيف أحداث أخرى مشابهة للبقرة. ويبدو أنه يوجد عدد لا بأس به من هذه الحيوانات النجمية في أنحاء الفضاء الخارجي، وأصبح لدينا فكرة أفضل عن طريقة مراقبتها وتوصيفها بشكل صحيح. تقول مارجوتي: "صحيح أن هذه الأحداث العابرة نادرة، ولكنها ليست نادرة إلى الدرجة التي كنا نتوقعها سابقاً. والآن، أصبحنا نعرف كيف نعثر عليها". يبدو أننا سنشهد في المستقبل القريب حملة تعقب لقطيع كامل من المواشي الفضائية التي ترعى وتجتر في أنحاء الكون.