عندما نسمع كلمة "بطريق" تقفزُ على الفور إلى أذهاننا الصورة الأيقونية لطائر بطريق إمبراطوري يتهادى بخُطاهُ الوئيدة فوق ثلوج القطب الجنوبي. لكن الحقيقة أن هناك 20 نوعاً آخر – على الأقل – من تلك الطيور؛ من البطاريق القزمة (أو بطاريق الجِنِّيات) بأجسادها الصغيرة وزُرقتها الشاحبة إلى بطاريق المكاروني التي اكتسبت تسميتها من البحارة الإنجليز في القرن الثامن عشر، حيثُ ذكَّرتهم أعرافها البرتقالية الزاهية بموضة "المكاروني" حينها، وهي صَرعة أزياء تعمَّدَت الغرابة والمُبالَغة ارتدى أتباعُها شُعُوراً مستعارةً هائلة الأحجام عجيبة الأشكال.
حسبُنا القول بأن البطاريق طيور مُتباينة حقاً. وقد نُشرَت حديثاً دراسةٌ في دورية البيولوجيا الجزيئية والتطور تحاول استقصاء أسباب هذا التبايُن الجليّ، ويطرح أصحاب الدراسة أن تكَوُّن تشكيلات جديدة من الجُزُر كان وراء تطوُّر وتشعُّب الأنواع المختلفة من هذه الطيور التي نعرفها اليوم بأشكالها اللطيفة التي تُذكرنا نوعاً بكُرة القدم.
ويستند طرحهم إلى أن نشوء العديد من تشكيلات الجُزُر - مثل جزر الجالاباجوس وجزر أنتيبوديس - عبر الملايين الخمسة الماضية من السنين شكَّلَ أوطاناً لأسلاف البطاريق التي استعمرَت تلك الجُزر وأقامت فيها أعشاشها لملايين السنين في عُزلةٍ تامة عن أُمَم البطاريق الأخرى، ومع مرور الدهر تطوَّرَت كل مجموعة منعزلة إلى نوعٍ جديد مختلف ومميز بالكامل.
ولا تُعد فكرة التطور المدفوع بالانعزال في الجُزر فكرةً جديدة بالضبط، فقد أشار إليها تشارلز داروين ذاته في حديثه عن تطور عصافير الجالاباجوس (والتي عُرفَت أيضًا باسم عصافير داروين) واختلافات صفاتها، في سياق تعريفه لنظرية التطور نفسها.
لكن عندما يتعلق الأمر بالبطاريق، فالعلماء يعتقدون أن تيارات المحيط المائية هي التي لعبَت الدور الأهم في عزل السُّلالات؛ فطيور البطريق - وما تتغذى عليه من أسماك كذلك - لا تفضِّل البقاء في مياه أبرد – أو أسخن – من اللازم، وهكذا تسبَّبَت التيارات البحرية في تطور البطاريق في اتجاهات مختلفة. وبالإضافة إلى هذا، فقد تسبَّبَ تجمُّد القارة الجنوبية (أنتاركتيكا)، قبل حوالي 30 مليون سنة، في "تغيير النظام البيئي بالكامل في نصف الكرة الجنوبي، وقد اعتُبر ذلك دافعاً مهماً لتطور البطاريق"، كما تقول (تيريزا كول) الباحثة في الوراثة وعلم الأحياء التطوري بجامعة أوتاجو في نيوزيلندا.
تواصل (كول): "مع ذلك ففرضية التطور المدفوع بعُزلة الجُزر - التي تطرحها الدراسة - قد تتماشى مع الفرضيتين السابقتين". وقد استعان الباحثون في هذه الدراسة بالحمض النووي الميتوكوندوري (أو دنا المُتقدِّرات) لعينات أحافير البطاريق المحفوظة في متاحف التاريخ الطبيعي، لمقارنته بأمثاله في عينات دم وأنسجة استُخلصَت من بطاريق حية. (وكانت استعانتهم بدنا المُتقدِّرات بدلاً من الدنا النووي المعتاد – رغم تفوُّق قدرة الأخير في الإتيان بالمعلومات – نظراً لتفوُّق السجلات الأحفورية في الاحتفاظ بحالة الأول).
استطاعت (كول) وفريقها البحثي في النهاية تجميع 41 من جينومات المُتقدِّرات شبه المكتملة والتي تُغطِّي كافة أنواع البطاريق الحية مع مجموعة من أنواعها المنقرضة حديثاً، واستخدموا نظاماً حاسوبياً لتجميع هذه الجينومات والوصول إلى إطار زمني يحدد الفترات التي عاشت فيها أنواع بعينها، ويبين مدى الترابط بين نوع وآخر.
تتابع (كول): "كنا في غاية الحرص على صفِّ الجينومات القديمة أمام نظائرها المعاصرة. يتطلب التعامل مع الحمض النووي العتيق الكثير من المعالجة لأن الخطأ فيه وارد دائماً، لكننا بذلنا أقصى ما بوسعنا للوصول إلى أفضل نتيجة ممكنة مما تحصَّلنا عليه من بيانات".
ثم طُلِبَ العون من بعض الخبراء بملامح وهيئات البطاريق، لتغذية البرنامج الحاسوبي بالسِّمات الظاهرية لأنواع البطاريق الحية والمنقرضة، بما أن استنتاج ذلك من الحمض النووي وحده قد لا يُجدي دائماً. وبذلك استطاع الفريق إخراج ما قد يوصَف بأنه أوفَى خريطة وراثية ممكنة لشجرة أنواع البطاريق الحية والمنقرضة حديثاً.
وهكذا تكشَّفَ الارتباط الواضح تماماً بين تكوُّن بعض الجُزر ونشوء خمسة أنواع مختلفة من البطاريق: جُزر الجالاباجوس مع بطريق الجالاباجوس، وجزيرة جُوف 48 مع بطريق موزلي، وجُزر أنتيبوديس مع البطريق مُنتصِب العُرف، وجُزر سنيرز مع بطريق سنيرز المُتوَّج، وجزيرة ماكواري 49 مع البطريق الملكي (والأخير بالمناسبة يُعَدُّ نُوَيعاً – أو نوعاً فرعياً – من أنواع رفاقنا بطاريق المكاروني).
يشير ذلك حتماً – كما تقول (كول) – إلى أن تكوُّن الجُزر الجديدة له علاقة مباشرة بهذا التباين في أنواع البطاريق. وتُوضِّح أن النتائج لم تصل إلى حد الإحكام التام، لأن العمل مع الحمض النووي العتيق قد يسمح بحدوث أخطاء. لكن الدراسة رغم ذلك تُعَدُّ نقطة انطلاق للمزيد من الجهود البحثية التي ربما تخبرنا يوماً كيف تطوَّرَت البطاريق لتصبح المخلوقات التي نعرفها اليوم.
من الجدير بالذكر أن عمليات البحث في الدراسة قادَت إلى بعض المفاجآت. فقد أدَّى الفحص الظاهري والوراثي للأحافير إلى اكتشاف نوعين جديدين حديثي الانقراض من البطاريق استوطَنَا جُزر (تشاتام) في نيوزيلندا. أُطلق عليهما إيوديبتيس وارامي وميجاديبتيس أنتيبوديس ريتشديلي على اسميّ عالميّ الأحياء البارزَيْن الخبيرَيْن في البطاريق (جون وارام) و(لانس ريتشديل). وقد بدا من الواضح أن النوعين انقرضا بعد فترة وجيزة من استعمار البشر للجُزر والذي حدث منذ بضعة ألوف من السنين، فقد عُثر على عظامٍ تعود لهما في أكوام المخلَّفات البشرية (التي يعثر عليها الأثريون عادةً بالقرب من المواقع الأثرية) مما يؤكد أن البشر هناك اصطادوا النوعين وأكلوهما حتى الفناء، بالرغم من أن المذاق لم يكن على الأرجح شهياً جداً، كما تعتقد (كول).
تقول (كول): "أظن أن الطَّعم كان سَمَكِياً للغاية. ليس طيباً أبداً. لا أعتقد أن البطاريق كانت مُشتهاةً كثيراً كمصدر للطعام. لا بد أن البشر لم يلجؤوا إليها إلا بعد اليأس من العثور على طعامٍ أشهى، كالثدييات الصغيرة".
قد يكون من الطريف التأمل في علاقة البشر بالبطاريق في الماضي، لكن من المهم للغاية أن ننظر بعين الاعتبار إلى مستقبل تلك العلاقة.
تختتم (كول) تعليقاتها فتقول: "تعاني نيوزيلندا على وجه الخصوص من انقراضات هائلة في الطيور. وهناك تناقص حاد في صفوف أنواع البطاريق هناك. وكلما سارعنا إلى اكتشاف ما نفقده، كلما تيسَّرَ تطوير استراتيجيات لحماية ما تبقَّى من الأنواع على قيد الحياة".