مثل "مايكل جوردان" في عالم كرة السلة، و"سيرينا ويليامز" في لعبة التنس، يحتل "ألكسندر ريدل" المكانة الأبرز حين يتعلق الأمر باكتشاف وتسمية الخنافس، وفصيلة السُّوس منها على وجه التحديد.
فقد قام ريدل -الباحث في الحشرات بمتحف كارلزروي الألماني للتاريخ الطبيعي- مؤخراً بنشر دراسة في دورية زووكيز ZooKeys عن اكتشافه الضخم لعدد 103 أنواع جديدة من خنافس السُّوس في الغابات الاستوائية الجبلية بجزيرة سولاوِيسي الإندونيسية. ومن الطريف حقاً أن العلماء لم يعرفوا عن سُكَّان تلك الجزيرة من السُّوس - قبل نشر هذه الدراسة - سوى النوع الواحد الموصوف عام 1885!
كان الاكتشاف مُفرحاً؛ فعلماء الحشرات صاروا اليوم يتسابقون لتوثيق أكبر قدر ممكن من أنواعها قبل شبح الانقراض الذي صار يهدد أعداداً هائلة ومتزايدة من أنواع الحشرات على هذا الكوكب.
يقول "بريت راتكليف" أستاذ علم الحشرات بجامعة نبراسكا، والذي لم يشارك في الدراسة: "التعرُّف على أنواع جديدة صار شديد الأهمية في ظل الظروف الحالية. لقد صار كوكبنا يقف في حالة وَدَاعٍ دائمٍ لما فاض به يوماً من أنواع المخلوقات – وخصوصاً الحشرات – وأفضى إلى الانقراض، قبل أن نجد الفرصة حتى للتعرُّف إليها. ومع كل نوعٍ يرقد في مثواه الأخير، نفقد تراثاً هائلاً من مسيرةِ تطوُّرٍ دامَت لملايين السنين. مسيرة خاصة جداً لا يمكن أبداً تعويضها".
لدى "ريدل" وجهة نظر مشابهة؛ فمنذ إعلان كشفه الأول - قبل عقودٍ مضت - عن أنواع جديدة من السُّوس، نَمَا لديه وَلَعٌ حقيقي بهذه الحشرات الصغيرة. يقول (ريدل) في رسالته إلى مجلة "بوبيولار ساينس": "تزايَد اهتمامي بها عندما عاينتُ التنوُّع الهائل في أنواعها، التنوُّع الذي بدا أن أحداً لم يُلقِ له بالاً من قبل قط". فأنواع السُّوس – تلك الخنافس الضئيلة التي تمتلكُ في العادة خطوماً طويلة كالخراطيم – تستطيع بسهولةٍ وبسرعةٍ عجيبتيْن أن تنقسم وتتفرع إلى أنواع جديدة تماماً، وهو ما يحدث بالفعل طوال الوقت، لسببٍ أو لآخر. وقد قادت هذه الحقيقة المُدهشة "ريدل" ليكرِّس حياته للتعرُّف على الأنواع الجديدة من السُّوس.
فقد نشَرَ "ريدل"، مثلاً، عام 2013 مع مجموعة من زملائه من ألمانيا وإندونيسيا ورقة بحثية تصف 101 نوعاً جديداً من السُّوس اكتُشفَت في غينيا الجديدة. وأمام هذا العدد الهائل من الأنواع لجأ فريق البحث إلى حلٍّ طريف لتسمية الأنواع دون تضييع الكثير من الوقت؛ فقد فتحوا أدلة أرقام الهواتف في نيو غينيا وانتقوا منها ما طاب لهم من الأسماء! (تريجونوبتيركس مورياورَمTrigonopterus moreaorum مثلاً سُمِّيَت على اسم "موريا" الرائج في نيو غينيا).
وباكتشاف هذا العدد الضخم من الأنواع في غينيا الجديدة وكذلك في جزيرتي بورنيو وجاوة القريبتيْن، أصبح "ريدل" شبه متيقِّن من أنه سيعثر في جزيرة سولاوِيسي على عدد مماثل. وقد كان محقاً بالطبع، وبالطبع اضطر إلى خوض لعبة التسمية من جديد! يقول "ريدل": "كان وصف الأنواع الجديدة وتوثيقها رسمياً عملاً شاقاً حقاً، لكن الشعور بإنجاز كل ذلك كان طيباً جداً؛ الشعور بأننا قد ملأنا للتو فراغاً جديداً في المعرفة البشرية".
ويقول "راتكليف" الذي لا يُعدُّ غريباً عن عمليات تسمية الأنواع الجديدة: "إطلاق اسمٍ على نوعٍ جديد هو مهمة تتطلب الكثير من التفكير؛ فلا بد من العثور على لقبٍ مميز يشير إلى مظهر الحشرة مثلاً أو موطنها. أما العثور على ألقابٍ مميزةٍ لكل تلك الأنواع، وموطنها واحد، فمهمة تحارُ فيها العقول"!
لا عجب إذن من أن يلجأ العلماء أحياناً عند التسمية إلى رموز الثقافات الشعبية، مثلما فعل (ريدل) مع معظم الأنواع الجديدة. فقد أطلق على سُوسَةٍ خضراء صغيرة للغاية اسم تريجونوبتيركس يودا Trigonopterus yoda تيمُّناً باسم فارس الجيداي الحكيم من أفلام حرب النجوم Star Wars، أما تريجونوبتيركس إديفيكس T. idefix وتريجونوبتيركس أُوبيلِكس T. obelix, وتريجونوبتيركس أستِريكس T. asterix فلا بد من أنها قد ذكَّرَت "ريدل" بشخصيات سلسلة القصص المصورة الفرنسية الشهيرة "أستِريكس وأُوبيلِكس". تريجونوبتيركس أرتِميس T. artemis وتريجونوبتيركس ساتيرَسكومي T. satyruscome أخذا اسميهما من أرتِميس وساتير من عوالِم الميثولوجيا الإغريقية. وقد قام "ريدل" كذلك بتسمية نوعين على اسميّ "فرانسيس واطسون" و"جيمز كريك"، العالِميْن اللذيْن ساعدا في اكتشاف تركيب الدنا DNA، لكنه نسي – للأسف – أن يسمي سُوسَةً باسم "روزاليند فرانكلين" التي أسهمَت أيضاً في مسيرة هذا الكشف العظيم.
لكن الأسماء السابقة ليست إلا غيضاً مِن فيض، ولهذا فقد لجأ "ريدل" بالطبع إلى حيلة التسمية بالأوصاف المميزة؛ تريجونوبتيركس أناليس T. analis مثلاً هي سوسة تمتلك مؤخرةً عجيبة الشكل. وتريجونوبتيركس فولكاُنورَم T. volcanorum تعيش في أحضان البراكين النشطة. وفي لفتة مؤثرة سمَّى "ريدل" تريجونوبتيركس جازميني T. jasminae وتريجونوبتيركس بريزمي T. prismae تخليداً لاسميّ ابنته وزوجته على الترتيب. وعندما سُئِلَ عن السُّوسة المفضلة له وسط كل هذه الأنواع أجاب: "ليست عندي واحدة بعينها. أجدها جميعاً مثيرة لاهتمامي لأقصى حد، خاصةً تلك اللفتات الفاتنة التي تُميِّز بين نوعٍ وآخر. يشبه الأمر أن تكون أباً للكثير من الأبناء، لا يوجد ابن مميَّز، لكنك تحب ما يُميِّز كل ابن".
على أن العمل الشاق لم ينتهِ بعد؛ حيث يتوقع "ريدل)"و"رادِن براميزا ناراكوسومو" – عالِم الأحياء بالمعهد الإندونيسي للعلوم وشريك (ريدل) في الدراسة – أن يتضاعف عدد الأنواع المكتشَفة بإرسال المزيد من المهمات البحثية الميدانية. كما أن هناك حالياً ما لا يقل عن 30 حشرة بين أيديهم بالفعل، لم يتخذوا القرار بتسميتها أنواعاً جديدة لأنهم لم يصلوا بعد إلى مرحلة اليقين التام من كونها كذلك، والتي لن يصلوا إليها إلا بعد الدراسة الدقيقة للأعضاء التناسلية والأحماض النووية للحشرات.
ينوي "ريدل" إعادة النظر كذلك في خنافس غينيا الجديدة لفهم المزيد عن تاريخها الطبيعي، ويقول: "ربما نعثر هناك على سر هذا التنوُّع المذهل، ونعود بقصص مشوِّقة للغاية عن جيراننا في الكوكب"!
نعرف بالطبع أن "ريدل" لن يعود إلا بجعبة مليئة بحشرات جديدة، وسيظل – على الأرجح – محتفظاً بمكانته الأسطورية في عالَم الخنافس الكبير.