لماذا يفشل الدماغ أحياناً في محاربة الذكريات المُخيفة؟

3 دقائق
لماذا تُعاودنا ذكريات الأحداث الصادمة بعد فترةٍ من نسيانها؟

على مدى سنوات طويلة، اعتقد العلماء أن اللوزة الدماغية (الأميجدالا) هي المنطقة المسؤولة في الدماغ عن الاستجابة الأولية لمشاعر الخوف، إلا أن بحثاً جديداً من جامعة تكساس في أوستن قدم وجهة نظر غير مسبوقة حول كيفية تعامل أدمغتنا مع الذكريات الصادمة، وما يحدث داخل الدماغ عندما تُعاودنا تلك الذكريات.

إخماد الذكريات السيئة بتكوين ذكريات بديلة

تشير الدراسة الحديثة إلى أن التبديل بين إعادة إحياء الذكريات الصادمة أو تجاوزها يعتمد على مجموعتين من الخلايا العصبية في منطقة الحصين في الدماغ. وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تحديد مجموعة من الخلايا العصبية المسئولة عن تحجيم وإخماد الذكريات المخيفة والتي تُعرف باسم "الخلايا العصبية الماحية". اعتمدت الدراسة على استخدام تقنية جديدة تسمح بتتبع النشاط العصبي مثل رصد ما يحدث للذكريات المخيفة عندما يتم تنشيط أو تعطيل المنطقة المسؤولة في الدماغ عن إخمادها، حيث تقوم تلك المنطقة بتكوين ذكريات بديلة سواءً إيجابية أو محايدة عن المكان الذي وقعت فيه هذه الذكرى الصادمة.

التجارب على الفئران

قام الباحثون بتحفيز ظهور مشاعر الخوف لدى الفئران بوضعها في صندوق، ومن ثم تعريضها لصدمات غير مؤذية. بعد ذلك، أعادوا الفئران إلى الصندوق، ولم يعرضوها هذه المرة لأي صدمات، وتم مراقبتها لمعرفة كيفية عمل الخلايا في منطقة الحصين أثناء تكوّن ذكريات الخوف بها، أو تكوّن الذكريات البديلة اللازمة لإخماد الذكرى الأولى.

وباستخدام تقنيات علم البصريات الوراثي -تقنيات وراثية تتيح التلاعب بالبروتينات المستجيبة للضوء-  تمكن الباحثون من التحكم في الجزء المستهدف من الدماغ بواسطة أشعة ضوئية، وقاموا بتجربة تشغيل وتعطيل مجموعتي خلايا ذكريات الخوف وخلايا الذكريات البديلة، الموجودتين في منطقة الحصين.

اكتشف الباحثون وجود صراع أزلي بين خلايا المجموعتين، فقد استمرت مجموعتا الخلايا في التواجد داخل أدمغة الفئران، واحتوت كل منهما على معلومات وذكريات مختلفة ومتناقضة عن الصندوق. مجموعة من الخلايا احتوت على الذكريات المخيفة من الصدمة، واحتوت الأخرى على الذكريات البديلة لكل مرة كان فيها هذا الصندوق مكاناً آمناً قبل التعرض لأي صدمات.

يقول "مايكل درو" عالم الأعصاب في جامعة تكساس أوستن والمؤلف الرئيسي للورقة البحثية: "تتواجد تلك الذكريات المتعددة لدينا في منطقة الحصين، حيث تتصارع فيما بينها لتحديد ما إذا كنا سنشعر بالأمان أو بالخوف".

العودة التلقائية للذكريات السيئة

لو افترضنا تعرّض شخص ما لحادث سيارة سيء أثناء ذهابه للعمل، سنجده كلما مرّ بعد ذلك بالتقاطع الذي شهد الحادثة، لا يستطيع منع نفسه من استعادة هذه الذكرى المرعبة. ولأن الطريق الوحيد المُؤدي للعمل، يمرّ بهذا التقاطع، فهو مضطر للقيادة عبره، وفي نهاية المطاف، ستختفي الذكرى شيئاً فشيئاً.

سيظل قادراً على تذكر الحادثة، لكن لن يشغل باله الشعور بالخوف الذي صاحبها، ويقال في مثل هذه المواقف إنه تخطى الذكرى، ومضى قدماً في حياته. ولكن قد يحدث في يوم ما، أثناء مرور هذا الشخص بالتقاطع، أن تعاوده مرة أخرى ذكرى تلك الحادثة، مع ما صاحبها من شعورٍ بالخوف.

يقول "درو": "وجدنا أن الذكريات البديلة تحفّز مجموعة الخلايا الخاصة بها، لتُخمد أثر الذكرى المخيفة، وبمرور الوقت يتبدل الحال مرة أخرى، فيقل نشاط الخلايا التي تحمل الذكريات البديلة، بينما تنشط الخلايا التي تحمل ذكريات الخوف". ويبدو أن هذا التقلب هو السبب في الظاهرة التي يطلق عليها علماء الأعصاب "العودة التلقائية للذكريات"، والتي تحدث عندما تعود ذكريات الخوف مرة أخرى بعد فترة من تخطيها.

بالنسبة للبعض، يمكن أن ترتبط العودة التلقائية للذكريات بطيفٍ واسع من الحالات مثل اضطراب كرب ما بعد الصدمة، وهي حالة تظهر أحياناً بعد التعرض لحدث أو سلسلة من الأحداث الصادمة، مما يجعلها تسبب استمرار ذكريات الصدمة وتعيد إحياءها.

وفي حالة شخص لا يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة مثل حالة قائد السيارة الذي ذكرناه سابقاً، فإن عودة الذكريات تلقائياً، بإمكانها أن تجعل المرور بمكان الحادث مصدراً للشعور بالقلق، مثلما كان الأمر في الفترة التي تلت الحادث مباشرة.

نظرة من زوايا جديدة على أبحاث الدماغ

يقول "ستيف راميريز" عالم الأعصاب في جامعة بوسطن "إن الورقة البحثية الصادرة حديثاً تعتبر انتصاراً على المستويين التقني والنظري".  فهذا النوع من الأبحاث التي تحاول تحديد أي الخلايا العصبية التي تتداخل في عمليات مثل الشعور بالخوف، هي أمور بدأ العلماء بها في العقد الأخير فقط. ويرجع هذا جزئياً إلى التقدم التكنولوجي، فالتقنيات التي استخدمها الفريق البحثي من جامعة تكساس، لم تكن متاحة منذ عقد مضى.

ومع ظهور أنواع جديدة من المجالات البحثية التي يمكن القيام بها، أصبح بالإمكان النظر للموضوع من زوايا جديدة، حيث صرنا نستطيع إجراء أبحاث على مستوى الخلايا العصبية المفردة في الدماغ، بدلاً من الحديث عن التكوينات الكبيرة المألوفة لدينا مثل اللوزة الدماغية والحصين وقشرة الفص الأمامي من الدماغ.

ويرى "راميرز" أن هذه الورقة البحثية تُعدّ رائدة في نقطة معينة، وهي إثبات فرضية أننا نستطيع تنشيط خلايا عصبية المسئولة عن الذكريات المخيفة والآمنة أو تعطيلها. وهو ما يفتح الباب أمام الأبحاث المستقبلية التي لا تقتصر على بحث كيفية حدوث تبدّل النشاط بين خلايا ذكريات الخوف وخلايا الذكريات البديلة، لكن تمتد أيضاً لتشمل طرقاً تمكننا من مساعدة الأشخاص الذين يعانون من حالات مثل اضطراب كرب ما بعد الصدمة، والقلق، والرهاب، من خلال القضاء على مخاوفهم من مصدرها.

المحتوى محمي