سيتذكر العديد من الأشخاص كبار السن ممن عاصروا أول هبوطٍ على القمر شعورهم الجليّ في تلك اللحظات، حين تحدث رائد الفضاء «نيل أرمسترونج» قائلاً عبارته الشهيرة: «هذه خطوة صغيرة لرجل، لكنها قفزة عملاقة للبشرية». والآن وبعد نحو نصف قرن، ما يزال هذا الحدث العظيم أحد أهم إنجازات البشرية. لكن، وعلى الرغم من التقدم التكنولوجي السريع الذي تحقق منذ ذلك الحين، لم يعد رواد الفضاء إلى القمر حتى الآن.
يبدو ذلك مفاجئاً. فبعد كل ذلك، وعندما نتذكر ذلك الحدث التاريخي الآن، فإننا سنقول ببساطة أن لدينا الآن طاقة حوسبية أكبر بكثير مما كان يمتلكه حاسب مهمة «أبولو 11»، ولكن هل هذا صحيح؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما مدى قوة هواتفنا الذكية مقارنةً بكمبيوتر أبولو 11؟
يُعرف الكمبيوتر على متن الرحلة «أبولو 11» بـ «أبولو غايدنس كمبيوتر» أو اختصاراً «AGC». كان يحتوي هذا الجهاز على ذاكرة قادرة على تخزين 2048 كلمة، ويمكنه استخدامها لتخزين النتائج مؤقتاً (البيانات التي تُفقد عند نفاذ الطاقة)، تعرف باسم «ذاكرة الوصول العشوائي». تتألف كل كلمة من 16 خانةً ثُنائية (بت)، يتخذ قيمتين؛ إما «0» أو «1». أي أن حاسب أبولو كان يمتلك ذاكرة وصول عشوائي تبلغ 32.768 بت.
وبالإضافة إلى ذلك، كان يحتوي على 72 كيلوبايت من ذاكرة القراءة فقط (ROM)، أي ما يُعادل 589.242 بت. وهذه الذاكرة مبرمجة مسبقاً ولا يمكن التعديل عليها بمجرد الإنتهاء من استخدامها.
يتطلب تخزين الحرف الأبجدي الواحد -مثل A أو B- ثمانية بتات، وذلك يعني أن حاسب «أبولو 11» لن يتمكن من تخزين هذه المقالة فيما يمتلكه من الـ 32.768 بت في ذاكرة الوصول العشوائية خاصته. والآن، قارن تلك السعة التخزينية بتلك التي يمتلكها هاتفك المحمول أو مشغّل الموسيقى، ستعلم حينها الفارق الشاسع في قدرتها على تخزين قدر كبير أكبر من البيانات التي تكون في أغلبها رسائل الكترونية وموسيقى وصور وأغاني.
ذاكرة الهاتف المحمول وكمبيوتر الرحلة أبولو 11
لتوضيح الأمر بدقةٍ أكثر، تمتلك أحدث الهواتف المحمولة عادةً ذاكرة وصول عشوائي تبلغ 4 جيجابايت، أي 34.359.738.368 بت. أي أنها تبلغ مليون ضعف (1.048.576 بالضبط) من ذاكرة الوصول العشوائي التي كان يمتلكها كمبيوتر «أبولو 11». أما هاتف آيفون الحديث، فسعة ذاكرة القراءة فقط فيه تصل حتى 512 جيجابايت، وهي أكثر بمقدار 4.398.046.511.104 مرة من الذاكرة التي كان يمتلكها كمبيوتر أبولو 11.
ولكن الذاكرة لم تكن الشيء الوحيد المهم، فقد امتلك كمبيوتر أبولو 11 معالجاً يعمل بسرعة 0.043 ميغاهرتز؛ (المعالج هو دارة إلكترونية تنفذ عمليات حسابية على البيانات). على سبيل المقارنة، تُقدر سرعة المعالج في هاتف آيفون الحديث بنحو 2490 ميجاهرتز تقريباً -لا يوجد رقم دقيق لسرعة المعالج لأن شركة آبل لا تفصح عن سرعة معالجاتها، لكن البعض قام بتقديرها- وهذا يعني أن قدرة معالج هاتف آيفون الموجود في جيبك تبلغ أكثر من 100.000 ضعفاً قدرة معالج كمبيوتر الرحلة أبولو 11 الذي هبط على سطح القمر قبل 50 عاماً.
سيكون الأمر صادماً أكثر عندما تعلم أن هناك معالجات أخرى في هاتف آيفون لها مهام معينة أخرى مثل؛ معالج الشاشة.
ماذا عن الآلة الحاسبة مقارنةً بكمبيوتر أبولو 11؟
مقارنة الآلة الحاسبة في أبولو 11 بتلك التي في آيفون الحديثة أمر مختلف تماماً. كيف لنا إذاً مقارنة كمبيوتر أبولو 11 مع آلة حاسبة كلاسيكية؟
تعد شركة «تكساس إنسترومنتس» واحدة من أشهر الشركات المصنعة للآلات الحاسبة، وقد أطلقت آلتها الحاسبة «TI-72» عام 1998، ثم الآلة الحاسبة «TI-84» عام 2004.
يوضح الجدول التالي مواصفات هاتين الحاسبتين:
بمقارنة الحاسبتين بكمبيوتر أبولو، سنلاحظ أن حاسبة TI-73 تحتوي على ذاكرة قراءة فقط أقل قليلاً، لكن ذاكرة الوصول العشوائي أكبر بثماني مرات. وقد زادت ذاكرة الوصول العشوائي في الآلة الحاسبة إصدار TI-84 بمقدار 32 ضعفاً مقارنةً بكمبيوتر أبولو، بينما كانت ذاكرة القراءة فقط تعادل 14500 مرة تلك الموجودة في كمبيوتر أبولو 11.
أما بالنسبة لسرعة المعالجة، فقد كانت TI-72 أسرع بـ 140 مرة من كمبيوتر أبولو، وكانت حاسبة TI-84 أسرع بنحو 350 مرةً منه أيضاً.
في الحقيقة من المذهل تصور أن آلة حاسبة بسيطة مصممة لمساعدة الطلاب لتجاوز امتحاناتهم أنتجت منذ عقدين من الزمن؛ كانت أقوى بكثير من جهاز الكمبيوتر الذي هبط بالرحلة الفضائية أبولو 11 المأهولة على سطح القمر.
ماذا لو امتلك مشروع أبولو 11 جهاز كمبيوتر حديث؟
كان كمبيوتر أبولو 11 الأحدث في وقته، لكن كيف كان سيختلف الهبوط على القمر لو امتلك أحدث أجهزة الكمبيوتر المتوفرة اليوم؟
أعتقد أن الوقت اللازم لتطوير برنامج الهبوط كان سيكون أسرع بكثير بسبب أدوات البرمجة المتوفرة اليوم، حيث كانت كتابة سطور البرمجة المعقدة المطلوب إرسالها إلى القمر واختبارها، وتصحيحها أسرع بكثير .
تشتمل واجهة المستخدم في كمبيوتر أبولو على لوحة شبيهة بنمط واجهة الآلة الحاسبة، تسمى «دي إس كي واي»، حيث تقوم بإدخال الأوامر باستخدام الرموز الرقمية. لو توفر حاسب حديث تلك الأيام لأبولو، لكانت واجهة الإدخال أسهل بكثير مما كانت عليه، الأمر الذي قد يكون ذا أهميةٍ قصوى في المواقف الحرجة المعقدة. من شبه المؤكد أنها لن تكون واجهةً تحتوي على لوحة مفاتيح، بل ستكون عبارةً عن واجهة أو شاشة تتضمن أوامر سريعة تعمل باللمس. إذا كان هناك عائق لاستخدام اللمس بسبب ارتداء رواد الفضاء للقفازات السميكة، فقد تعمل الواجهة من خلال الإيماءات أو حركة العين أو أي واجهةٍ تعمل بفكرةٍ إبداعية أخرى.
المثير للدهشة حقاً أن سرعة الاتصال بالأرض لن تكون أفضل مما كانت عليها، ستكون هي نفسها عام 1969، أي بسرعة الضوء، أي أن الرسالة ستستغرق نحو 1.26 ثانية للوصول من القمر إلى الأرض. ولكن إرسال الملفات الكبيرة التي نتعامل معها هذه الأيام -ومن مسافاتٍ أطول بكثير- لنحصل على الصور التي ترسلها المركبات الفضائية سوف يستغرق وقتاً أطول نسبياً مما كان عليه عام 1969. ومع ذلك، ستبدو الصور أجمل بفضل التقنيات التصوير والكاميرات الحديثة.
ربما التغيير الأكبر الذي سنعاينه هو أن الكمبيوتر أصبح أكثر ذكاءً، وأن قرار الهبوط والإقلاع آنذاك لن يكون بيد الكمبيوتر وحده، ولكنه كان سيزودنا بمعلوماتٍ أكثر ذكاءً بكثير، وسيكون قادراً على اتخاذ الكثير من القرارات أكثر مما كان كمبيوتر أبولو 11 قادراً على اتخاذها عام 1969. وهذا قد يكون مصدر ارتياح كبير لرواد الفضاء. يقول أرمسترونج: «إن اتخاذ قرار المشي على سطح القمر لم يكن بصعوبة اتخاذ قرار الهبوط النهائي، فعلى مقياس صعوبةٍ من واحد إلى عشرة، أعطي قرار المشي الرقم 1، بينما أعطي قرار الهبوط الرقم 13».
لذلك دعونا نعترف في نهاية المطاف أن الهبوط على سطح القمر بتلك الإمكانات الحوسبية المتواضعة آنذاك، كان حقاً إنجازاً هائلاً.