بوبساي العربية ترصد من الصين: الشوارع خالية ولا نعرف متى سينتهي كل هذا؟

4 دقائق

كانت لحظة فارقة في حياتي حين قررتُ السفر إلى بلد لا أعرف لغته، بينما أعرف قليلاً عن ثقافته، ولكوني كاتباً صحفياً قررت خوض التجربة، لكن بصفة مدرس في جامعة خبي للدراسات الأجنبية. 

رحلت من مصر حاملاً أمتعتي، وقليلاً من أحلامي، وكثيراً من ذكرياتي، وآملاً أن أمتلك تجربة ثرية، لكن الحقيقة أني شعرت بالندم في بادئ الأمر؛ وبالأخص مع صعوبة تعلم اللغة الصينية، ولأن أغلب الناس هنا لا يتحدثون الإنجليزية، الأمر الذي جعلني أمكث في غرفتي لثلاثة أسابيع لا أتكلم مع أي شخص، وكان الوقت يمر من مقر السكن إلى العمل والعكس، ثم قررت تعلُّمِ اللغة الصينية والتحدث مع الناس، ووجدت في الصين شعباً ودوداً وبسيطاً، ويريد خدمتك بكل ما استطاع إلى ذلك سبيل.

منذ أن وطأت قدمي الصين، وأنا أعيش في مدينة جياتشوانج في إقليم خبي الذي يقع في شمال الصين، وهنا تفاجأت بالكم الهائل من الجاليات العربية الذين يعيشون ويعملون هنا في الصين، عدد لا بأس به من الأشخاص من كل البلاد العربية، وكانت هذه فرصة جيدة لأن أتعرف عليهم، وفي محاولة لتقليل آثار الغربة التي وضعت نفسي بداخلها.

 

السنة الأولى مرت.. والثانية عالقاً فيها

السنة الأولى كانت جيدة، وأضافت ليّ الكثير من التجارب والثقافة، لذا لم أجد مفراً من خوض الثانية، ولكن لو نعلم الغيب. عُدتُ إلى الصين في سبتمبر/ أيلول من العام المنصرم؛ ولأكمل ما بدأته هنا مع طلابي، لكن لم تكن هذه السنة كسابقتها، خاصة مع بداية انتشار فيروس كورونا، أو بالأحرى انتشار الهلع هنا في الصين؛ وبدأت المتاجر والمحلات تغلق أبوابها، وهناك ما يشبه حظر التجوال برغبة من الناس أنفسهم، وخوفاً من انتقال العدوى إليهم، الأمر تحوّل وكأن الصين تخوض حرباً  يعرف عنها العالم كل شيء، ولكن لا أحد يعرف متى ستنتهي.

حالي كحال كل الجاليات العربية التي تعيش هنا، نعرف أننا وحيدون، ونعرف أن آلاف الكيلومترات تفصلنا عن بلادنا وأهلنا، ومع كل تلك الإجراءات التي اتخذتها بعض الدول العربية لنعود إلى الديار سالمين؛ إلا أن الكثير منا آثر البقاء في الصين، وبالطبع جلّ ما يخطر ببالنا؛ ماذا إذا ساء الأمر أكثر من ذلك؟، وبشكل خاص أفكر كثيراً؛ هل سأظل هنا أم يجب عليَّ العودة إلى مصر؟، وماذا إذا طال الأمر أكثر مما ينبغي؟، للأسف لا أعرف الإجابة، وأتمنى لو كان القرار سهل اتخاذه مثل قرار سفري إلى الصين، ويزداد الأمر حدة عليّ مع الضغوط التي يمارسها عليّ أفراد عائلتي وأصدقائي للعودة، والذين يتواصلون معي يومياً، تتخطى أحياناً أربع مرات في اليوم الواحد وفقط الاطمئنان عليّْ.

 

نعم شعرت الفيروس وذهبت إلى المستشفى 

مدينة مقفرة. تحوّلت أغلب شوارع الصين التي كانت تضج بالحياة يوماً إلى خاوية تماماً إلا فيما ندر، أتذكر أول يوم ليّ هنا؛ كانت الشوارع مكتظة بالناس والسيارات وحتى عربات الطعام التي تقف على جانبي الطريق، لكن الآن إن نزلت إلى الشارع فربما لا أقابل أحداً.

حين أتحدث إلى أصدقائي من الأشقاء العرب؛ أجد حالهم مثلي، نتشارك الوساوس ونشعر بأن العدوى حتماً تسرى في أجسادنا؛ على الرغم من أننا لا نرى الشارع إلا في الضرورة القصوى، أما بالنسبة إلىّ فأنا أمكث في منزلي، ولمدة تطول أحياناً لأسبوع دون الخروج إلى الشارع، وأذكر أني ذات مرة ذهبت لأشتري بعض الاحتياجات الضرورية وتزامن ذلك مع بداية ظهور الفيروس، وشعرت ببعض الألم في عيني جراء تلوث الهواء، ولأنني في تلك الفترة وقعت فريسة للشائعات مثل أن شخصاً ما أُصيب بذلك الفيروس من خلال عينيه، فعدت إلى غرفتي وأنا على يقين أنني أُصبتُ بالفيروس، بل إني شعرت بسريانه في جسدي، الأمر الذي استدعى ذهابي إلى المستشفى في اليوم التالي لأطمئن على نفسي، وبعد الكشف تأكدت أن الأمر مجرد إيحاء لا أكثر ولا أقل.

أبعاداً أخرى ربما لا تخطر ببالك تحدث هنا في الصين حالياً، الذهاب إلى السوبر ماركت يتطلب قياس درجة حرارتك، وأي مكان كذلك، تخضع لقياس درجة الحرارة قبل المرور، وإذا كانت درجة حرارتك مرتفعة لا يُسمح لك بالدخول إلى المكان على الإطلاق.

 

ليست هذه بكين التي نعرفها

لا أعلم هل نحن أفراد الجاليات العربية أم أي شخص أخر في الصين؛ يشعر بأن في كل مرة نذهب فيها لشراء المتطلبات الحياتية نتوّقع الإصابة بالعدوى، لا أعرف لماذا يراودنا دائماً هذا الشعور؟ ربما لأن الإجراءات المشددة التي تمارسها الحكومة في الشوارع على الناس تجعلنا نشعر بكارثية الأمر أكثر، وعلى الرغم من أن الجميه يخرج مرتديًا القناع الواقي، والقفازات، ولكن أحيانًا "يصبح الفزع أسوأ شيء يحدث على أرض الواقع"، كما تقول صديقتي الجزائرية، نوال بن تومي.

حالي كحال نوال لا نفضل القناع الواقي، لأنه يصيبنا بضيق التنفس، لكن نوال التي لا تخرج كثيراً وأغلب الوقت تقضيه في مسكنها، تلاحقها وساوس انتقال العدوى، وعلى النقيض تماماً من صديقنا إبراهيم وهو من الجزائر أيضاً، والذي يرى أن الأمر لا يستدعي كل هذا القلق، لأن الأمور في تحسن كبير، ولا يريد العودة إلى الجزائر ويقول: "لن أعود إلا إذا أُرغمت على ذلك"، صديقنا هارونا محمد الكاميروني يرى أن الحياة صعبة على المستوى النفسي فقط، خاصة وأن الفيروس خلق حالة من الهلع والخوف لنا نحن الذين نعيش في الصين.

في الأيام الأخيرة ومع ازدياد التحذيرات، ورفع مستوى التأهب للدرجة القصوى، ذهبتُ إلى العاصمة بكين مضطراً لإنجاز بعض المهام، ووجدت بكين أخرى لا أعرفها، شوارع وبنايات شاهقة دون بشر، ولم أعرف أي موطأ قدمِ حقاً وضعت؟ حتى الأنوار التي كانت تملأ المدينة لم تُعد تفعل، وإن جاز التعبير فإن رأيت بكين ولأول مرة تتشح بالسواد، بل إن مطار بكين الذي سافرت من خلاله العام الماضي، لم يُعد هو؛ صار أشبه بالمكان المهجور، عدد قليل من المسافرين، ووجوههم تقول أنهم مثلي أجبروا على ذلك.

 

الجانب الجيد من القصة

 

الصينيون أنفسهم لا يستشعرون الخطر مثلنا؛ صديقتي التي رفضت ذكر اسمها ترى أن الوضع لا يستدعي كل هذا القلق، والأمر ليس بالخطر العظيم، كلنا نتبع التعليمات الوقائية كي نحافظ على حياتنا. لكن ما يجب ذكره أنّ في مدينة تلك الصديقة لم يُكتشف إلا حالة واحدة فقط أُصيبت بالفيروس.

وبالنظر إلى الاحصائيات؛ ستجد أنّ الأمر كله لا يستدعي ذلك الهلع والفزع فهناك مدن بأكملها ظهرت بها حالات إصابة وفي طريقها للتعافي ولم يحدث بها أيّة وفيات.

وفي الحقيقة وإن كان هناك قلق والكل يستشعر الخطر، إلا أن الصين تسعى جاهدة للسيطرة على الأمر، وأغلب الظن أنّها أقرب إلى النجاح، خاصة في ظل الإمكانيات الطبية الهائلة التي تمتلكها والتي تساعدها في السيطرة على مجريات الأمور.

أخيراً نحن بخير؛ نعلم أن الشعور بالقلق هو السائد لدى أغلب الناس في العالم، لكن نحن بخير نسبياً، ونؤمن أن الأمر مسألة وقت، ومرة أخرى ستخرج الصين إلى النهار.

 

المحتوى محمي