تعلم القراءة بعد اجتياز مرحلة الشباب قد يغير من طريقة عمل الدماغ

4 دقائق
من الممكن تعليم الكهول مهارات قراءة جديدة

"القراءة هي الحياة" شعارٌ تتبناه العديد من الجهات والمنظمات حول العالم. أما بالنسبة للأشخاص الذين يستطيعون القراءة، وخاصةً أولئك الذين يقرؤون بسرعة عالية وكأن القراءة امتداد لتفكيرهم، فإن المعادلة التعبيرية لديهم بسيطة للغاية: إن العالم يتجسّد لدينا من خلال الكلمة المكتوبة. بغض النظر عن ذلك، فإن المقدرة على القراءة هي حاجة أساسية لا غنى عنها في حياتنا اليومية، سواءً كُنا نود إرسال رسالة نصية، أو كُنا بصدد التقدم لوظيفة جديدة، أو كُنا في السوق وأردنا قراءة ما هو مُدوّن على المنتجات، إلى غير ذلك من عشرات المواقف التي تُصادفنا يومياً. لقد أصبحت الأمية في عالمنا الحديث بمثابة الإبحار في مياه هائجة، دون أدنى معرفة بمواقع النجوم ولا امتلاك بوصلة ولا حتى خارطة. والجديد لدينا اليوم هو دراسة حديثة وجدت بأن فوائد تعلم القراءة لا تقتصر على تسهيل سبل المعيشة، وإنما تؤدي أيضاً إلى تبديل الطريقة التي يعمل الدماغ من خلالها، وذلك عن طريق زيادة عدد الوصلات العصبية بين مناطقه المختلفة.

يقول المُعدّ الرئيسي للدراسة فالك هويتخ، الباحث بمعهد ماكس بلانك للعلوم اللغوية النفسية: "إننا نحاول فهم المبدأ الرئيسي للكيفية التي تعمل بها أدمغتنا. ومن الطرق المناسبة للوصول إلى ذلك الهدف معاينة الابتكارات الثقافية في المجتمعات، مثل القراءة، التي تُعد مهارةً مُكتسبةً حديثة الظهور نسبياً في التاريخ البشري".

ويُضيف هويتخ: "في حال تمكن العلماء من فهم طريقة اكتساب مهارات القراءة، ومعرفة الكيفية التي يتغير فيها الدماغ مع اكتساب المعارف والعلوم، فقد يساعدنا ذلك على معرفة الأسباب الدماغية لحالاتٍ مرضية مثل عُسر القراءة".

تُعد القراءة من المهارات البشرية المثيرة للاهتمام بسبب شدة تعقيدها. فهي تتطلب القدرة على التعرف إلى أشكال نمطية وفك رموزها للوصول إلى المعنى المطلوب. لنأخذ على سبيل المثال كلمة "أزرق"، فلقراءتها ينبغي علينا بدايةً تمييز كل حرف، ثم معرفة المعنى الذي يُحققه اجتماع الحروف على ذلك الترتيب، ومن ثم ربط المعنى باللون الموجود في العالم الحقيقي، وهو ما يحدث في غضون أجزاء من الثانية.

ولفهم الكيفية التي تؤثر فيها القراءة على الدماغ، قام هويتخ وزملاؤه بإجراء تجربتهم على مجموعتين من البالغين الأُمّيّين الناطقين باللغة الهندية وجميعهم في الثلاثينيات من العمر، وحرص الباحثون على تحقيق انسجام في صفات أفراد المجموعتين، سواءً من حيث أعداد الذكور والإناث فيهما، والأعسرية (استخدام اليد اليمنى أو اليسرى)، ومستوى دخل الفرد، وعدد الأشخاص المُثقفين ضمن العائلة، ومستوى الذكاء. وقد وقع اختيار الباحثين على البالغين بدلاً من الأطفال لأن أدمغة الأطفال مرنة للغاية، وبإمكانهم تعلم اللغات بسرعة أكبر من البالغين، كما أن عقل الطفل يتعلم المزيد من الأشياء باستمرار، مما يجعل من الصعب تحديد التغيرات الدماغية المترافقة مع كل مهارة جديدة يتعلمها.

في البداية، خضع أفراد كلا المجموعتين إلى تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI، وذلك بهدف تحقيق فهم أولي لكيفية عمل الدماغ لدى كل مشارك. بعد ذلك، خضع أفراد المجموعة الأولى لدورة محو أمية بالأبجدية الديفنغارية مدتها ستة أشهر، وهي الأبجدية المستخدمة في عدة لغات آسيوية منها الهندية. في حين لم يخضع أفراد المجموعة الثانية لأية دورات تدريبية مماثلة. وبعد انتهاء الدورة التدريبية قام الباحثون بإعادة تصوير الدماغ عند جميع المشاركين من كلا المجموعتين.

مصدر الصورة: معهد ماكس بلانك لعلوم الدماغ والإدراك البشريمع البدء بتعلم القراءة، تتمكن اللدونة العصبية من التغلب على الشبكة المتجذرة عميقاً في الدماغ. تؤدي عملية إعادة التنظيم تلك إلى زيادة قدرة الشخص على التعرف بصرياً على سلاسل الحروف التي تظهر في كلمة معينة (مثل "تقا" في كلمات: تقارب، تقاليد، تقاعدي).

قام الباحثون بتتبع الجريان الدموي في مختلف مناطق الدماغ، فوجدوا بأن أفراد المجموعة الأولى الذين تلقوا تدريباً لمحو الأمية قد حصلت تغيرات واضحة في أدمغتهم، وخاصة في بعض أجزاء القشرة الدماغية، التي تمارس دوراً في الذاكرة والانتباه والتفكير وتعلم اللغات. لعل تلك النتائج لم تكن جديدة أو مفاجأة، فقد أظهرت دراسات سابقة بأن أجزاءً من القشرة الدماغية تتغير عند تعلم القراءة. ولكن المفاجئ حقاً كان زيادة التوصيلية الوظيفية بين المناطق الأكثر عمقاً من الدماغ، بما فيها الفص القذالي (الذي يلعب دوراً في المعالجة البصرية).

يقول هويتخ: "لم يسبق لأية دراسة سابقة أن أظهرت حدوث تبدلات جوهرية ومستمرة في البنى العميقة من الدماغ، وأن هذه البنى تتكيف مع المهارات الجديدة المُكتسبة، وتأخذ بالتواصل بشكل فعال مع بقية أجزاء القشرة الدماغية، مثل القشرة البصرية".

كما خلُص الباحثون إلى أن بعض الدراسات السابقة المُجراة حول اضطراب عسر القراءة قد توصلت إلى نتائج خاطئة. فقد عزت بعض الدراسات السابقة الإصابة بعسر القراءة إلى وجود تشوهات في البنى العميقة للدماغ. إلا أن دراسة هويتخ كانت أول دراسة تستخدم التصوير الدماغي لإظهار تشوهات مماثلة عند الأشخاص الأميّين، والتي اختفت لاحقاً عندما تعلم هؤلاء الأشخاص القراءة.

يقول هويتخ: "تقترح دراستنا بأن هذه التبدلات في البنى الدماغية العميقة تمارس دوراً كبيراً في تعلم القراءة. وهذه الفوارق الموجودة بشكل واضح بين الأشخاص الذين يستطيعون القراءة والأِشخاص الأميين، ليست السبب المباشر للإصابة بعسر القراءة".

مثال عن النصوص المكتوبة بالأبجدية الديفنغارية التي تدرّب أفراد المجموعة الأولى على قراءتها - مصدر الصورة: ويكي كومنز

 بالطبع هناك بعض جوانب القصور في الدراسة. فعلى سبيل المثال، من الصعب جداً التنبؤ بدرجة تحفيز النظام البصري في الدماغ، وذلك لأن الأبجدية الديفنغارية هي لغة بصرية إلى حد بعيد.

يقول هويتخ: "من المعلوم لدينا بأن القراءة تُحفز شبكة محددة في الدماغ بغض النظر عن الأبجدية المكتوبة بها (حتى وإن كانت أبجدية بريل الخاصة بفاقدي حاسة البصر)، ولكن هناك أجزاء إضافية من الدماغ تتبدل بناءً على نوع الأبجدية المُتعلّمة. فعلى سبيل المثال، إذا كُنت تتعلم اللغة الصينية، فسوف تتفعل القشرة الدماغية اليمنى بشكل أكبر، ولعل ذلك يعود إلى أن أحرف الأبجدية الصينية مُعقدة أكثر من غيرها".

وفي الوقت الذي أظهرت فيه العديد من الدراسات بأن تعلم لغة ثانية قد يُحسن من المرونة الدماغية – مما يُقلل كثيراً من خطر الإصابة بأمراض عصبية تنكسية في مراحل لاحقة من الحياة، مثل داء ألزهايمر – إلا أن قليلاً من الدراسات تناولت فوائد كون اللغة الثانية ذات أبجدية مختلفة كُلياً. ويعكف حالياً باحثون من معهد ماكس بلانك للعلوم اللغوية النفسية على دراسة التغيرات التي تحدث عند الهولنديين عند تعلم لغة مختلفة، مثل العربية أو الصينية، أو تعلم النوتة الموسيقية ورموزها، إلا أن الدراسة لا تزال جارية ولم تصل إلى نتائجها النهائية بعد.

وتقترح الدراسة الحالية بأن الدماغ البشري يحتفظ دائماً بالقدرة على تعلم لغات جديدة. يقول هويتخ: "بإمكاننا تعلم مهارات مُعقدة جداً حتى في المراحل اللاحقة من الحياة، مثل القراءة، التي هي مهمة شاقة بالنسبة للأشخاص الذين لم يجربوها من قبل".

المحتوى محمي